أي إنسان على وجه البسيطة يداعب خياله حلم أن يكون وضعه الاقتصادي في أفضل أحواله بحيث يستطيع أن يعيش حياته بكرامة بعيداً عن عالم الأموات، وأن يكون مقيماً وسط السكان الأحياء، هكذا يمني البعض من سكان حياة اللاعودة أنفسهم ، ولكن ليس بالأحلام وحدها يتحقق لهم ما يصبون إليه، ومن أبطال ذلك العالم الغريب والعجيب (ابوراس) الذي يكشف قصته مع سكنه وسط الأموات، مؤكداً أنه راض تمام الرضا بما قسمه له الله، إلا أنه رغماً عن ذلك يأمل في كرمه سبحانه وتعالي بأن يكون له منزلاً بعيداً عن هذا العالم حتى يستطيع تربية أبنائه بصورة طبيعية دون أن يكون هنالك هاجس أنهم من سكان حياة اللاعودة، ومع هذا وذاك تجده لا يمتلك المال الذي يغطى به ثمن شراء مستلزمات حياته اليومية، فراتبه الذي يتقاضاه من عمله بجامعة الأحفاد بالكاد يكفى للصرف على مواصلاته ووجبة إفطاره (فالعين بصيرة واليد قصيرة)، وهذا الواقع الذي يركن له ضيفنا ينطبق على أغلب سكان المقابر الأحياء، فهم ينامون في الليل، ومن ثم يستيقظون في الصباح على مشاهد قبور الموتي مصفوصة على امتداد البصر، وهي جميعاً يطوقها صمت رهيب، ولا يقطع ذلك الصمت سوى تشييع جثمان من هنا أو هناك أو من يزورون الموتى ما بين الفينة والأخرى.
من أنت وكم تبلغ من العمر؟
أنا عبدالرحمن ابوراس عبدالله مراد أبلغ من العمر (٤٩) عاماً، وتعود جذوري إلى محلية (الردوم) بولاية جنوب دارفور.
ماذا تفعل في هذا المكان الذي يهابه كل إنسان؟
أعتبر نفسي واحداً من سكان حياة اللاعودة، فأنا أقيم في مقابر مدينة الشاطئ مع أسرتي الصغيرة، فأنا متزوج ولدي عدد من الأطفال، وزوجتي أنجبت لي طفله في غضون الأيام الماضية، إذ أن مولودتي حديثة الولادة فتحت عينها على القبور، الحفر ومواراة الجثامين الثري.
متى جئت من غرب السودان إلى الخرطوم؟
حضرت في العام ١٩٩٧م، ومنذ ذلك التاريخ أعمل عاملاً بسيطاً في إدارة جامعة (الأحفاد).
ما هي قصتك مع القبور والمقابر؟
بدأت قصتي مع المقابر منذ اللحظة التي توفيت فيها سيدة كنت مقيماً معها في منزلها بمدينة الشاطئ، فعندما أسلمت الروح لبارئها لم يكن أبنائها موجودين في السودان، فما كان مني إلا أن أقوم بهذا الدور بالإنابة عنهم حيث قمت بدفنها في المقابر، وعندما حضروا من خارج البلاد شكروني على القيام بالدور الإنساني، ومن ثم رحلت من منزلهم إلى منزلي المتواضع وسط قبور الموتى.
ما الذي لاحظته في من يحضرون الموتى للدفن؟
هنالك الكثير منهم يحضرون موتاهم ولا يعرفون كيفية دفنهم، وبالتالي أقوم أنا بهذا الدور بالإنابة عنهم، ومن ثم أشرح لهم تلك الخطوات حتى يتبعوها في المستقبل، أي إنني كنت أضعهم في الطريق الصحيح في مراسم الدفن، وكيفية وضع الجثمان داخل القبر (ود اللحد)، وأين تكون وجهة الرأس، وأن دفن جثمان الكبير يختلف عن الصغير؟.
كم لك من الزمان مقيماً بأسرتك داخل المقابر؟
حوالي العام.
بحكم أنك من سكان عالم اللاعودة، هل القصص التي تتم روايتها حول ما يدور في المقابر صحيحة؟
لا غير صحيحة نهائياً، فأنا منذ أن سكنت وأسرتي في مقابر مدينة الشاطئ ولم الحظ أو شاهد شيئاً غريباً يدعني أصدق القصص المنسوجة من نسج الخيال لا أكثر من ذلك، وها أنت تشاهد بنفسك أبنائي يقضون كل وقتهم في هذه المقابر.
ألا تخاف أنت أو أي فرد من أفراد أسرتك من المقابر؟
هذا السؤال دائماً ما يوجه لي إلا تخاف كون أنك تسكن مع الموتى، فكنت أرد بالنفي قائلاً : لم يحدث أن ساورني ولو لكسر من الثانية الخوف من مجاورة قبور الموتى، فالإقامة في المقابر من أأمن الأماكن التي يمكن أن تنام فيها دون هواجس تعتريك، وخلال وجودي بها أخرج في أوقات متفرقة نهاراً وليلاً وحتى في الساعات الأولي من الصباح، وطوال ذلك لم أشاهد ما يذهب إليه الناس حول عالم القبور الذي أصبحت لصيقاً بسكانها الأموات، لذلك أرجو من العامة عدم سرد قصص لا أساس لها من الصحة.
ماذا عن فيروس كورونا؟
مما لا شك فيه تنتهي هنا جائحة (كورونا)، فهذه هي المحطة النهائية، لذا لا نتخوف منها لأننا نثق أنها لن تفكر المجئ لهذا المكان لأنه سيتم دفنها، ولم يسبق لنا في هذا الجانب أن دفنا موتي توفوا بالوباء.
من أين يتم إحضار الطوب الخاص بود اللحد؟
كنا في وقت سابق نحضره من مقابر (أحمد شرفي)، إما في الحاضر فإننا نجهزه داخل مقابر مدينة الشاطئ، وقد وصل إلى (٥٠٠٠) طوبة، والمسئول عن المقابر هو عبدالمنعم، بالإضافة إلى صلاح الذي يدفع أيضاً فاتورة الكهرباء، وكلما قطع التيار الكهربائي أتصل عليه هاتفياً في أي وقت، وما أن يتلقي مكالمتي إلا ويجري اللازم.
هل هنالك شخص يسكن في هذه المقابر غيرك؟
نعم يوجد جاري (مرتضي) الذي يقوم بإحضار المياه لتحضير الطوب، وهو يعتبر جاري داخل المقابر، وتقيم معه أيضاً أسرته، وهكذا تجد السكان الأحياء كثر في عدد من المقابر المنتشرة بولاية الخرطوم، وهنالك من سبقوني للإقامة فيها بسنوات.
ما السؤال الذي تطرحه على أهل المتوفي قبل السماح لهم بدفنه؟
أطلب منهم إبراز شهادة الوفاة، وأين حدثت الوفاة وأسبابها، وبعد التأكد من صحة المعلومات أوثق لها بالتسجيل في الدفتر الخاص بالوفيات، ومن ثم أسمح لهم بمواراة الجثمان الثري بالمقابر.
هل هنالك مسيحيين يتم دفنهم في هذه المقابر؟
لا لا يوجد دفن للمسيحيين في هذه المقابر باستثناء الأطفال فقط حتى سن السادسة.
هل تم نبش أي جثمان بعد دفنه؟
لم يحدث أن تم نبش جثمان بعد دفنه لأي سبب من الأسباب.
لماذا لا تكون هنالك قبور محفورة؟
طلب منا عدم تجهيز القبور قبل الوفيات، وأي متوفي يأتي أهله للمقابر قبل زمن كاف لتحضير القبر وتجهيز الطوب لود اللحد، وأنا بدوري أحدد لهم المكان الذي يجب أن تتم فيه مواراة الجثمان الثري.
ماذا عن زوجتك؟
زوجتي وضعت لي مولودة في اليومين الماضيين، وهي الآن موجودة في منزلها داخل مقابر مدينة الشاطئ، وأطلقت عليها (يسرى)، وهذا يؤكد أن هنالك قوة إيمان.
فيما تجولت داخل المقابر ومقابر آخري مع سكانها الأحياء الذين لا تحس بأن خوفاً يتملكهم من هذا المكان غير المألوف للحياة، والتي كنا نسمع في إطارها قصصاً مثيرة جداً، فضلاً عن إحساس الإنسان بالفزع من مهابة الموت.
وفي هذه الأماكن أدرت حوارات مع عدد من سكان المقابر الأحياء الذين ظلوا يعيشون وسط الأموات لسنوات وسنوات لدرجة أنهم أنجبوا فيها الأبناء والبنات، فمنهم من أنتقل للعيش في عالم الأحياء.
وفي هذا السياق تقول (أم أحمد) : عشت في هذا المكان منذ طفولتي، والذي شهد كل مراحل حياتي إلى أن تزوجت فيه قبل سنوات، هكذا كنت أنام واستيقظ وسط قبور الموتى، وللأمانة والتاريخ تعتبر المقابر من أأمن الأماكن في الدنيا.
من جهتها، قالت (أم علي) : الحمدلله ظللت اقطن في هذا المكان، ومن ثم تزوجت فيه، وأنجبت من الأبناء ذكوراً وإناثاً، ورغماً عن اتساع رقعة الأسرة إلا أن المولي عز وجل مبسط لنا الحياة والحمدلله، ولكن كل ما أتمناه هو أن أمتلك منزلاً خاصاً، وهذا المنزل ليس من أجلي بل من أجل أبنائي.
ألا تخافين من الإقامة في هذا المكان؟
بالعكس لم أشعر بالخوف نهائياً، فالموت سبيل الأولين والآخرين، والتواجد هنا يترك لدى الإنسان إحساساً عميقاً بالحياة، لذلك ما أن تتأقلم عليه إلا وتصبح إنساناً قنوعاً بما قسمه الله سبحانه وتعالى لك.