على خلفية توقيع نيفاشا
................
اتفاق الحكومة والحركة الشعبية اقر فصل الجنوب بالاستفتاء
.................
على عثمان محمد طه ممثل نظام الرئيس المخلوع وقع الاتفاق
...............
وقف عندها : سراج النعيم
...............
ركزت بيانات الحكومات العسكرية في البلاد على فشل التجارب الديمقراطية في السودان، ولعل آخرها ثورة الإنقاذ الوطني برئاسة المخلوع عمر البشير الذي انقلب على شرعية الإمام الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة القومي، والذي شكل ائتلافاً مع الحزب الإتحادي الديمقراطي، والجبهة القومية الإسلامية التي قادت ضباطاً من قوات الشعب المسلحة للانقلاب سالف الذكر باعتبار أن البلاد تشهد إشكاليات اقتصادية بالغة التعقيد، مما أفقدها القدرة على تحقيق التنمية المستدامة، بالإضافة إلى تمرد جنوب السودان، والخلاف حول الدستور، فالبعض يدعو إلى سلطة علمانية، والبعض الآخر يدعو إلى سلطة دينية، مما حدا بنظام الحكم المايوي إعلان الحرب على الأحزاب التقليدية وقتئذ، مثال حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي إلا أن الأول حاز على النصيب الأكبر من سخط نظام الرئيس الراحل جعفر محمد نميري، إذ أنه قام بمصادرة أمواله، ومن ثم وجه تهماً إلى قيادته، فأخذت الإشكالات تسيطر على الوضع فيما يتعلق بالسياسة المنتهجة لحل الأزمات، في حين طالب القوميون العرب بنظام حكم اشتراكي عربي يرتكز ارتكازاً أساسياً على الديانة الإسلامية، مما أدي إلى حدوث انشقاقات، مما نتج عنها إنقلاب الشيوعيون على النظام الماوي، وهو الانقلاب الذي ترأسه الرائد هاشم العطا في 19 يوليو 1970م، إلا أنه لم يستمر في الحكم سوي ثلاثة أيام فقط، ثم عاد النميري إلى تولي السلطة مجدداً، والتي على خلفيتها شكل محاكم أصدرت أحكاماً قضت بإعدام قادة من الحزب الشيوعي، وأبرزهم عبد الخالق محجوب السكرتير العام للحزب، وجوزيف قرنق، ومن ثم قام بإتباع سياسة إقتصادية قائمة على تأميم المؤسسات الشركات، والمصارف، محولاً إياها إلى قطاع عام، وابرم عقوداً مع شركة (شيفرون) الأمريكية للتنقيب عن النفط في إقليم كردفان وجنوب السودان، إلا أن التعاقد لم يستمر طويلاً نسبة إلى الأوضاع أمنية في البلاد، وشملت ثورة النميري التصحيحية الخدمة المدنية، وحل مجلس قيادة الثورة المايوية، والإتحاد الاشتراكي، الأحزاب، التنظيمات، النقابات والاتحادات، ومن ثم أجري استفتاء على رئاسة الجمهورية، وهو الاستفتاء الذي جعله أول رئيس سوداني ينال لقب رئيس الجمهورية، ومن ثم كلف جعفر محمد علي بخيت، منصور، وبدرالدين سليمان لوضع مسودة حكم للبلاد، وعليه تم الاقتراع عبر الصناديق لتكوين مجلس الشعب، والذي كان له رأياً آخراً حول مسودة الدستور، وكان الأعتراض قائماً على مسألة شكل النظام الجمهوري، وحدث خلاف بين المعسكر الداعي إلى وضع الدستور علمانياً، والآخر الداعي وضع الدستور وفقاً للتشريعات الإسلامية، وكانت من النقاط المثارة عدم إدراج النص على دين الدولة الرسمي، وقال أحد نواب البرلمان : (إن الدستور قد نص على اللغة والعلم والأوسمة، فكيف يعقل أن يهمل الديانة الإسلامية، فرد عليه جعفر محمد بخيت الذي رأس من وضعوا المسودة بأن مسألة النص على الدين الإسلامي مسألة مظهرية وليست جوهرية، لأن الدولة كائن معنوي لا دين لها، وهي لا تمارس العبادة التي يمارسها الفرد والدولة هي اساس المواطنة لا الدين).
وفي العام 1989م قامت الجبهة الإسلامية بانقلاب عسكري تحت اسم ثورة الإنقاذ الوطني، وفي بداية الانقلاب لم يكن معروفاً توجه الانقلابين السياسي إلى أن ظهرت الجبهة الإسلامية بزعامة حسن عبد الله الترابي في المشهد السياسي، وفي ظل ذلك النظام الجديد ساءت العلاقات السودانية مع بعض دول العالم، مما نتج عن ذلك مقاطعة السودان، وإيقاف المعونات الأمريكية، ومن ثم إدراجه اسم السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، إما في العام 1999م فقد قام نظام المعزول عمر البشير بتجريد الدكتور حسن عبد الله الترابي من صلاحياته التشريعية كرئيس للمجلس الوطني، ومن ثم تم اعتقاله واقتياده إلى السجن الاتحادي (كوبر)، مما حدا به تكوين حزبه الذي أطلق عليه المؤتمر الشعبي، وبالتالي أنشق الإسلاميين إلى حزبيين، وفي ظل هذه الصراعات والانشقاقات والانقسامات أندلعت حرباً في إقليم دارفور المضطرب منذ العام 2003م، والذي تكونت فيه حركات مسلحة، وتصاعدت وتيرة الأحداث التي أصدر في إطارها مورينيو أوكامبو المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لويس مذكرة اعتقال بحق الرئيس المخلوع عمر البشير.
وتستمر الأزمات في ظل النظام السابق الذي استقل انشقاق الحركة الشعبية لتحرير السودان في أغسطس من العام 1991م، وأجري اتصالاً احادياً بالدكتور لام أكول، والذي توصل معه إلى اتفاق يفضي لتوقيع وثيقة (فرانكفورت) في يناير من العام 1992م، إلا أن نظام الرئيس المعزول عمر البشير تنصل عنها فيما بعد، وفي مايو من العام 1992م قامت الحكومة بأجراء مفاوضات في (أبوجا) النيجيرية بوساطة من الرئيس النيجيري إبراهيم بابنجيدا، إلا أنها لم تسفر عن الوصول لاتفاق بين طرفي الصراع، وعليه ظلت الحكومة والحركة الشعبية في حالة شد وجذب إلى أن تم التوقيع على الاتفاق الإطاري (ماشاكوس) في يوليو من العام 2005م، ومن ثم تم إبرام اتفاق (نيفاشا) بين نظام الرئيس السابق عمر البشير ممثلاً له علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية السابق، الدكتورجون قرنق دي مبيور زعيم الحركة الشعبية، وهو الاتفاق الذي أوقفت بموجبه الحرب الدائرة بجنوب البلاد، وعلى خلفية ذلك منح إقليم جنوب السودان حكماً ذاتياً، والمشاركة في الحكم الاتحادي، ومن ثم إجراء استفتاء حول بقاءه مع شمال السودان أو الانفصال، وذلك في العام 2011م، وفي 9 يناير من العام2011م وقع اختيار الجنوبيين على الانفصال، وعليه تم إنزال علم جمهورية السودان من مدينة (جوبا) واستبداله بعلم الحركة الشعبية.
من الواضح أن الأحزاب والتنظيمات السياسية تستغل ثغرات الأنظمة العسكرية المتعاقبة على حكم السودان، واتضح ذلك في معارضة نظام حكم الرئيس الفريق (عبود)، وذلك عندما أطلقت كوادره تصريحات حول الوضع الراهن في البلاد، وهي التصريحات التي نتج عنها الحراك الثوري الذي اضطره للتنازل عن مقاليد الحكم، والذي قتلت في ظله الشرطة الطالب أحمد القرشي طه، والذي صحب تشييع جثمانه احتجاجات عنيفة، وهذه الاحتجاجات لم تتوقف عند الخرطوم، بل امتدت شرارتها لمعظم مدن ومناطق سودانية في جميع أنحاء السودان، وبما أن الأمر خرج عن السيطرة اضطر الفريق إبراهيم عبود إعلان استقالته من الحكومة، وحل المجلس العسكري، ومن ثم دخل في مفاوضات مع زعماء النقابات العمالية والمهنية وممثلي أحزاب المعارضة والأكاديميين، وقد أفضت المفاوضات إلى تشكيل حكومة انتقالية برئاسة سر الختم الخليفة، وإبقاء الفريق عبود كرئيس للدولة، والذي سرعان ما تخلي عن الحكم، وحل محله مجلس رئاسي يتكون من خمسة أعضاء، وعليه انتهي الحكم العسكري في أكتوبر من العام 1964م.
وفي نوفمبر من العام ١٩٦٤م تم انتخاب الإمام الصادق المهدي رئيساً، حيث أنه مارس ضغطاً على محمد أحمد محجوب، رئيس وزراء السودان وقتئذ للاستقالة بعد بلوغه للسن القانونية، والتي تتيح له أن يتقلد منصب رئيس الوزراء، وما أن تحقق له ذلك، إلا ودخل في نظام حكم ائتلافي مع الحزب الإتحادي الديمقراطي في 25 يوليو من العام 1966م.
فيما تسامحت حكومة سر الختم الخليفة الانتقالية مع المعارضين الجنوبيين، وأعلنت العفو العام عن المتمردين، ودعت إلى مؤتمر (المائدة المستديرة) في مارس من العام 1965م، والذي عقد بمدينة جوبا، وكان يهدف إلى إيجاد حل لمشكلة جنوب السودان، وفيه انقسم الجنوبيين بين البقاء مع شمال السودان أو الانفصال، فيما كانت رؤية السلطة المركزية قائمة على فكرة قيام دولتين لكل منهما برلماناً وسلطات تنفيذية، إلى جانب كفالة حريتها في معالجة الأمور الاقتصادية والزراعية ومسائل التعليم والأمن، وأن يكون للجنوب جيش تحت قيادة موحدة للدولتين، إما الجنوبيون الأكثر راديكالية فقد كانوا يودون الحصول على حق تقرير المصير للاستقلال التام بدولتهم، وبما أن الأمر كان يمضي في هذا الاتجاه أشعل التمرد الحرب، وهكذا الجنوب يشكل عقبة للأنظمة المتعاقبة على حكم البلاد إلى أن قام نظام الرئيس المخلوع عمر البشير بفصل جنوب السودان من خلال الاستفتاء الاحادي في العام 2011م، وذلك وفقا للاتفاق الذي وقع في ضاحية نيفاشا في العام 2005م.
من جانبها، سعت حكومة النميري سعياً حثيثاً لإيجاد حلول ناجزة لإشكالية جنوب السودان والانتهاء من التمرد، فما كان منه إلا الاعتراف في التاسع من يونيو من العام 1969م بالفوارق بين الجنوب وشمال السودان، وشكل هذا الاعتراف علامة تحول كبرى في سياسات الحكم المركزي تجاه الجنوب، ورغماً عما قام به النظام المايوي إلا أنه لم يشفع له باعتبار أن نظام الرئيس النميري ينتمي للمعسكر اليساري، ولم يمنع ذلك المفهوم التوقيع على اتفاقية أديس أبابا في 3 مارس من العام 1972م، وذلك بين نظام الرئيس الراحل النميري وزعماء التمرد الجنوبي من خلال وساطة أثيوبية، مجلس الكنائس العالمي ومجلس عموم أفريقيا الكنسي، ونتج عن ذلك الاتفاق إيقاف إطلاق النار بين الجانبين وإقرار حكم ذاتي إقليمي، واستيعاب (٦) آلاف فرد من قوات حركة (الأنانيا) في قوات الشعب المسلحة، ما أن بدأت السلطات المختصة في تنفيذ بنود الاتفاقية إلا وقفزت على السطح الخلاف في الجنوب السودان، ثم أمتدت إلى البرلمان الإقليمي، وترتكز الصراعات العنيفة في المكاسب الشخصية غير الرامية للمصلحة العامة، وارتفعت بعض الأصوات المدعية أن هنالك نعرات قبلية وغيرها من العوامل المؤدية دون أدني شك للفشل الذريع، وظل المشهد كما هو إلى أن حلت سبعينيات القرن الماضي، وفي ذلك التاريخ حدث خلاف بين أبيل الير وزعيم المتمردين السابق جوزيف لاقو، وعليه حدثت الانشقاقات بين القبائل الجنوبية، واعترض جنوبيون على إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد.
وفي العام ١٩٨٣م قاد العقيد ركن الدكتور جون قرنق دي مبيور التمرد الجنوبي تحت عنوان حركة (الأنانيا ٢)، والذي وصل إلى مرحلة متأخرة من التأزم، إذ أن هنالك مجموعة عسكرية في مدينة (واو) رفضت رفضاً باتاً أوامر قيادتها بالتحرك من هناك إلى شمال السودان، ولم تكتف بل خالفت التعليمات العسكرية، وقامت بقتل ضباط شماليين، ومن ثم هربت من المدينة إلى الغابة،
ومن هنا بدأ الجزء الثاني من تمرد الجنوبيين، مما جعل النظام المايوي يرسل ضابطاً جنوبياً لإعادة المجموعة مجدداً إلى حضن قوات الشعب المسلحة، إلا أن جون قرنق فاجأ الحكومة السودانية بالانضمام إلى الفرقة العسكرية المتفاوض معها، ثم كون فيما بعد الحركة الشعبية لتحرير السودان، وفي ظل هذه المستجدات وتطور الأحداث أصبح نظام في البلاد يمضي نحو العد التنازلي.
وفي ٦ إبريل من العام ١٩٨٥م تقلد المشير عبدالرحمن سوار الدهب مقاليد حكم البلاد في فترة انتقالية مزحت بين العسكرية والمدينة ونجحت في الخروج بالسودان إلى بر الانتخابات بأمان، وهي الحكومة التي جاءت إلى سدة الحكم بصورة عفوية بعد انتفاضة الشعب على النظام المايوي بسبب ارتفاع الأسعار، ومن الملاحظ أن الاحتجاجات في السودان تخرج للشارع بشكل عفوي كما حدث في أكتوبر من العام 1964م، فهي كانت ضد الغلاء، ومن ثم أصبحت عصيان مدني، مما اضطر السلطات العسكرية في البلاد التخلي عن حكمه، وهكذا حدثت مظاهرات إبريل من العام 1986م، وهي أيضاً انتفضت في وجه التسعيرة التي أقرتها السلطات المختصة، وبما أن المظاهرات تواصلت، ولم تتراجع عن خيارها رغما عن تراجع الحكومة عن التسعيرة التي وضعتها في تلك الأثناء، مما فرض على قيادة قوات الشعب المسلحة احتواء الأوضاع المتأزمة في البلاد، وفي السادس من أبريل من العام 1985م، أعلن المشير عبد الرحمن سوار الذهب الاستيلاء على السلطة، وبرر الإطاحة بالمشير النميري إلى أن قيادة قوات الشعب المسلحة ظلت تراقب الأوضاع الأمنية السيئة في البلاد، وما تشهده من أزمة سياسية، اقتصادية واجتماعية، عليه قررت بالإجماع الوقوف إلى جانب إرادة الشعب السوداني، ومن ثم أصدر قرارات عطلت بموجبها الدستور، وإعلان حالة الطوارئ، وإقالة الرئيس وحكومته، وحل الاتحاد الاشتراكي.
فيما ترمي مرحلة الحكم الإنتقالي تهيئة الأجواء لفترة الانتخابات، واحتواء آثار نظام الحكم المخلوع، وانجزت الحكومة الانتقالية وعدها بالتخلي عن السلطة بعد مضي عام، ومن ثم تم الاقتراع للانتخابات، والتي تقلب فيها حزب الأمة برئاسة الإمام الصادق المهدي، الذي أصبح رئيساً لمجلس الوزراء، فيما تقلد الحزب الإتحادي الديمقراطي بزعامة أحمد الميرغني رأس الدولة، وتميزت هذه الفترة بعدم الاستقرار الذي أدي إلى تشكيل عدد من الحكومات الائتلافية خلال أربع سنوات، مما نجم عن ذلك خروج الحزب الإتحادي الديمقراطي من الحكومة، وعمل على إبرام اتفاق سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بعد تحقيقها انتصارات عسكرية، ونتج عن ذلك تذمر في قوات الشعب المسلحة والتي رفعت مذكرة شديدة اللهجة لحكومة الإمام الصادق المهدي.
................
اتفاق الحكومة والحركة الشعبية اقر فصل الجنوب بالاستفتاء
.................
على عثمان محمد طه ممثل نظام الرئيس المخلوع وقع الاتفاق
...............
وقف عندها : سراج النعيم
...............
ركزت بيانات الحكومات العسكرية في البلاد على فشل التجارب الديمقراطية في السودان، ولعل آخرها ثورة الإنقاذ الوطني برئاسة المخلوع عمر البشير الذي انقلب على شرعية الإمام الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة القومي، والذي شكل ائتلافاً مع الحزب الإتحادي الديمقراطي، والجبهة القومية الإسلامية التي قادت ضباطاً من قوات الشعب المسلحة للانقلاب سالف الذكر باعتبار أن البلاد تشهد إشكاليات اقتصادية بالغة التعقيد، مما أفقدها القدرة على تحقيق التنمية المستدامة، بالإضافة إلى تمرد جنوب السودان، والخلاف حول الدستور، فالبعض يدعو إلى سلطة علمانية، والبعض الآخر يدعو إلى سلطة دينية، مما حدا بنظام الحكم المايوي إعلان الحرب على الأحزاب التقليدية وقتئذ، مثال حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي إلا أن الأول حاز على النصيب الأكبر من سخط نظام الرئيس الراحل جعفر محمد نميري، إذ أنه قام بمصادرة أمواله، ومن ثم وجه تهماً إلى قيادته، فأخذت الإشكالات تسيطر على الوضع فيما يتعلق بالسياسة المنتهجة لحل الأزمات، في حين طالب القوميون العرب بنظام حكم اشتراكي عربي يرتكز ارتكازاً أساسياً على الديانة الإسلامية، مما أدي إلى حدوث انشقاقات، مما نتج عنها إنقلاب الشيوعيون على النظام الماوي، وهو الانقلاب الذي ترأسه الرائد هاشم العطا في 19 يوليو 1970م، إلا أنه لم يستمر في الحكم سوي ثلاثة أيام فقط، ثم عاد النميري إلى تولي السلطة مجدداً، والتي على خلفيتها شكل محاكم أصدرت أحكاماً قضت بإعدام قادة من الحزب الشيوعي، وأبرزهم عبد الخالق محجوب السكرتير العام للحزب، وجوزيف قرنق، ومن ثم قام بإتباع سياسة إقتصادية قائمة على تأميم المؤسسات الشركات، والمصارف، محولاً إياها إلى قطاع عام، وابرم عقوداً مع شركة (شيفرون) الأمريكية للتنقيب عن النفط في إقليم كردفان وجنوب السودان، إلا أن التعاقد لم يستمر طويلاً نسبة إلى الأوضاع أمنية في البلاد، وشملت ثورة النميري التصحيحية الخدمة المدنية، وحل مجلس قيادة الثورة المايوية، والإتحاد الاشتراكي، الأحزاب، التنظيمات، النقابات والاتحادات، ومن ثم أجري استفتاء على رئاسة الجمهورية، وهو الاستفتاء الذي جعله أول رئيس سوداني ينال لقب رئيس الجمهورية، ومن ثم كلف جعفر محمد علي بخيت، منصور، وبدرالدين سليمان لوضع مسودة حكم للبلاد، وعليه تم الاقتراع عبر الصناديق لتكوين مجلس الشعب، والذي كان له رأياً آخراً حول مسودة الدستور، وكان الأعتراض قائماً على مسألة شكل النظام الجمهوري، وحدث خلاف بين المعسكر الداعي إلى وضع الدستور علمانياً، والآخر الداعي وضع الدستور وفقاً للتشريعات الإسلامية، وكانت من النقاط المثارة عدم إدراج النص على دين الدولة الرسمي، وقال أحد نواب البرلمان : (إن الدستور قد نص على اللغة والعلم والأوسمة، فكيف يعقل أن يهمل الديانة الإسلامية، فرد عليه جعفر محمد بخيت الذي رأس من وضعوا المسودة بأن مسألة النص على الدين الإسلامي مسألة مظهرية وليست جوهرية، لأن الدولة كائن معنوي لا دين لها، وهي لا تمارس العبادة التي يمارسها الفرد والدولة هي اساس المواطنة لا الدين).
وفي العام 1989م قامت الجبهة الإسلامية بانقلاب عسكري تحت اسم ثورة الإنقاذ الوطني، وفي بداية الانقلاب لم يكن معروفاً توجه الانقلابين السياسي إلى أن ظهرت الجبهة الإسلامية بزعامة حسن عبد الله الترابي في المشهد السياسي، وفي ظل ذلك النظام الجديد ساءت العلاقات السودانية مع بعض دول العالم، مما نتج عن ذلك مقاطعة السودان، وإيقاف المعونات الأمريكية، ومن ثم إدراجه اسم السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، إما في العام 1999م فقد قام نظام المعزول عمر البشير بتجريد الدكتور حسن عبد الله الترابي من صلاحياته التشريعية كرئيس للمجلس الوطني، ومن ثم تم اعتقاله واقتياده إلى السجن الاتحادي (كوبر)، مما حدا به تكوين حزبه الذي أطلق عليه المؤتمر الشعبي، وبالتالي أنشق الإسلاميين إلى حزبيين، وفي ظل هذه الصراعات والانشقاقات والانقسامات أندلعت حرباً في إقليم دارفور المضطرب منذ العام 2003م، والذي تكونت فيه حركات مسلحة، وتصاعدت وتيرة الأحداث التي أصدر في إطارها مورينيو أوكامبو المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لويس مذكرة اعتقال بحق الرئيس المخلوع عمر البشير.
وتستمر الأزمات في ظل النظام السابق الذي استقل انشقاق الحركة الشعبية لتحرير السودان في أغسطس من العام 1991م، وأجري اتصالاً احادياً بالدكتور لام أكول، والذي توصل معه إلى اتفاق يفضي لتوقيع وثيقة (فرانكفورت) في يناير من العام 1992م، إلا أن نظام الرئيس المعزول عمر البشير تنصل عنها فيما بعد، وفي مايو من العام 1992م قامت الحكومة بأجراء مفاوضات في (أبوجا) النيجيرية بوساطة من الرئيس النيجيري إبراهيم بابنجيدا، إلا أنها لم تسفر عن الوصول لاتفاق بين طرفي الصراع، وعليه ظلت الحكومة والحركة الشعبية في حالة شد وجذب إلى أن تم التوقيع على الاتفاق الإطاري (ماشاكوس) في يوليو من العام 2005م، ومن ثم تم إبرام اتفاق (نيفاشا) بين نظام الرئيس السابق عمر البشير ممثلاً له علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية السابق، الدكتورجون قرنق دي مبيور زعيم الحركة الشعبية، وهو الاتفاق الذي أوقفت بموجبه الحرب الدائرة بجنوب البلاد، وعلى خلفية ذلك منح إقليم جنوب السودان حكماً ذاتياً، والمشاركة في الحكم الاتحادي، ومن ثم إجراء استفتاء حول بقاءه مع شمال السودان أو الانفصال، وذلك في العام 2011م، وفي 9 يناير من العام2011م وقع اختيار الجنوبيين على الانفصال، وعليه تم إنزال علم جمهورية السودان من مدينة (جوبا) واستبداله بعلم الحركة الشعبية.
من الواضح أن الأحزاب والتنظيمات السياسية تستغل ثغرات الأنظمة العسكرية المتعاقبة على حكم السودان، واتضح ذلك في معارضة نظام حكم الرئيس الفريق (عبود)، وذلك عندما أطلقت كوادره تصريحات حول الوضع الراهن في البلاد، وهي التصريحات التي نتج عنها الحراك الثوري الذي اضطره للتنازل عن مقاليد الحكم، والذي قتلت في ظله الشرطة الطالب أحمد القرشي طه، والذي صحب تشييع جثمانه احتجاجات عنيفة، وهذه الاحتجاجات لم تتوقف عند الخرطوم، بل امتدت شرارتها لمعظم مدن ومناطق سودانية في جميع أنحاء السودان، وبما أن الأمر خرج عن السيطرة اضطر الفريق إبراهيم عبود إعلان استقالته من الحكومة، وحل المجلس العسكري، ومن ثم دخل في مفاوضات مع زعماء النقابات العمالية والمهنية وممثلي أحزاب المعارضة والأكاديميين، وقد أفضت المفاوضات إلى تشكيل حكومة انتقالية برئاسة سر الختم الخليفة، وإبقاء الفريق عبود كرئيس للدولة، والذي سرعان ما تخلي عن الحكم، وحل محله مجلس رئاسي يتكون من خمسة أعضاء، وعليه انتهي الحكم العسكري في أكتوبر من العام 1964م.
وفي نوفمبر من العام ١٩٦٤م تم انتخاب الإمام الصادق المهدي رئيساً، حيث أنه مارس ضغطاً على محمد أحمد محجوب، رئيس وزراء السودان وقتئذ للاستقالة بعد بلوغه للسن القانونية، والتي تتيح له أن يتقلد منصب رئيس الوزراء، وما أن تحقق له ذلك، إلا ودخل في نظام حكم ائتلافي مع الحزب الإتحادي الديمقراطي في 25 يوليو من العام 1966م.
فيما تسامحت حكومة سر الختم الخليفة الانتقالية مع المعارضين الجنوبيين، وأعلنت العفو العام عن المتمردين، ودعت إلى مؤتمر (المائدة المستديرة) في مارس من العام 1965م، والذي عقد بمدينة جوبا، وكان يهدف إلى إيجاد حل لمشكلة جنوب السودان، وفيه انقسم الجنوبيين بين البقاء مع شمال السودان أو الانفصال، فيما كانت رؤية السلطة المركزية قائمة على فكرة قيام دولتين لكل منهما برلماناً وسلطات تنفيذية، إلى جانب كفالة حريتها في معالجة الأمور الاقتصادية والزراعية ومسائل التعليم والأمن، وأن يكون للجنوب جيش تحت قيادة موحدة للدولتين، إما الجنوبيون الأكثر راديكالية فقد كانوا يودون الحصول على حق تقرير المصير للاستقلال التام بدولتهم، وبما أن الأمر كان يمضي في هذا الاتجاه أشعل التمرد الحرب، وهكذا الجنوب يشكل عقبة للأنظمة المتعاقبة على حكم البلاد إلى أن قام نظام الرئيس المخلوع عمر البشير بفصل جنوب السودان من خلال الاستفتاء الاحادي في العام 2011م، وذلك وفقا للاتفاق الذي وقع في ضاحية نيفاشا في العام 2005م.
من جانبها، سعت حكومة النميري سعياً حثيثاً لإيجاد حلول ناجزة لإشكالية جنوب السودان والانتهاء من التمرد، فما كان منه إلا الاعتراف في التاسع من يونيو من العام 1969م بالفوارق بين الجنوب وشمال السودان، وشكل هذا الاعتراف علامة تحول كبرى في سياسات الحكم المركزي تجاه الجنوب، ورغماً عما قام به النظام المايوي إلا أنه لم يشفع له باعتبار أن نظام الرئيس النميري ينتمي للمعسكر اليساري، ولم يمنع ذلك المفهوم التوقيع على اتفاقية أديس أبابا في 3 مارس من العام 1972م، وذلك بين نظام الرئيس الراحل النميري وزعماء التمرد الجنوبي من خلال وساطة أثيوبية، مجلس الكنائس العالمي ومجلس عموم أفريقيا الكنسي، ونتج عن ذلك الاتفاق إيقاف إطلاق النار بين الجانبين وإقرار حكم ذاتي إقليمي، واستيعاب (٦) آلاف فرد من قوات حركة (الأنانيا) في قوات الشعب المسلحة، ما أن بدأت السلطات المختصة في تنفيذ بنود الاتفاقية إلا وقفزت على السطح الخلاف في الجنوب السودان، ثم أمتدت إلى البرلمان الإقليمي، وترتكز الصراعات العنيفة في المكاسب الشخصية غير الرامية للمصلحة العامة، وارتفعت بعض الأصوات المدعية أن هنالك نعرات قبلية وغيرها من العوامل المؤدية دون أدني شك للفشل الذريع، وظل المشهد كما هو إلى أن حلت سبعينيات القرن الماضي، وفي ذلك التاريخ حدث خلاف بين أبيل الير وزعيم المتمردين السابق جوزيف لاقو، وعليه حدثت الانشقاقات بين القبائل الجنوبية، واعترض جنوبيون على إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد.
وفي العام ١٩٨٣م قاد العقيد ركن الدكتور جون قرنق دي مبيور التمرد الجنوبي تحت عنوان حركة (الأنانيا ٢)، والذي وصل إلى مرحلة متأخرة من التأزم، إذ أن هنالك مجموعة عسكرية في مدينة (واو) رفضت رفضاً باتاً أوامر قيادتها بالتحرك من هناك إلى شمال السودان، ولم تكتف بل خالفت التعليمات العسكرية، وقامت بقتل ضباط شماليين، ومن ثم هربت من المدينة إلى الغابة،
ومن هنا بدأ الجزء الثاني من تمرد الجنوبيين، مما جعل النظام المايوي يرسل ضابطاً جنوبياً لإعادة المجموعة مجدداً إلى حضن قوات الشعب المسلحة، إلا أن جون قرنق فاجأ الحكومة السودانية بالانضمام إلى الفرقة العسكرية المتفاوض معها، ثم كون فيما بعد الحركة الشعبية لتحرير السودان، وفي ظل هذه المستجدات وتطور الأحداث أصبح نظام في البلاد يمضي نحو العد التنازلي.
وفي ٦ إبريل من العام ١٩٨٥م تقلد المشير عبدالرحمن سوار الدهب مقاليد حكم البلاد في فترة انتقالية مزحت بين العسكرية والمدينة ونجحت في الخروج بالسودان إلى بر الانتخابات بأمان، وهي الحكومة التي جاءت إلى سدة الحكم بصورة عفوية بعد انتفاضة الشعب على النظام المايوي بسبب ارتفاع الأسعار، ومن الملاحظ أن الاحتجاجات في السودان تخرج للشارع بشكل عفوي كما حدث في أكتوبر من العام 1964م، فهي كانت ضد الغلاء، ومن ثم أصبحت عصيان مدني، مما اضطر السلطات العسكرية في البلاد التخلي عن حكمه، وهكذا حدثت مظاهرات إبريل من العام 1986م، وهي أيضاً انتفضت في وجه التسعيرة التي أقرتها السلطات المختصة، وبما أن المظاهرات تواصلت، ولم تتراجع عن خيارها رغما عن تراجع الحكومة عن التسعيرة التي وضعتها في تلك الأثناء، مما فرض على قيادة قوات الشعب المسلحة احتواء الأوضاع المتأزمة في البلاد، وفي السادس من أبريل من العام 1985م، أعلن المشير عبد الرحمن سوار الذهب الاستيلاء على السلطة، وبرر الإطاحة بالمشير النميري إلى أن قيادة قوات الشعب المسلحة ظلت تراقب الأوضاع الأمنية السيئة في البلاد، وما تشهده من أزمة سياسية، اقتصادية واجتماعية، عليه قررت بالإجماع الوقوف إلى جانب إرادة الشعب السوداني، ومن ثم أصدر قرارات عطلت بموجبها الدستور، وإعلان حالة الطوارئ، وإقالة الرئيس وحكومته، وحل الاتحاد الاشتراكي.
فيما ترمي مرحلة الحكم الإنتقالي تهيئة الأجواء لفترة الانتخابات، واحتواء آثار نظام الحكم المخلوع، وانجزت الحكومة الانتقالية وعدها بالتخلي عن السلطة بعد مضي عام، ومن ثم تم الاقتراع للانتخابات، والتي تقلب فيها حزب الأمة برئاسة الإمام الصادق المهدي، الذي أصبح رئيساً لمجلس الوزراء، فيما تقلد الحزب الإتحادي الديمقراطي بزعامة أحمد الميرغني رأس الدولة، وتميزت هذه الفترة بعدم الاستقرار الذي أدي إلى تشكيل عدد من الحكومات الائتلافية خلال أربع سنوات، مما نجم عن ذلك خروج الحزب الإتحادي الديمقراطي من الحكومة، وعمل على إبرام اتفاق سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بعد تحقيقها انتصارات عسكرية، ونتج عن ذلك تذمر في قوات الشعب المسلحة والتي رفعت مذكرة شديدة اللهجة لحكومة الإمام الصادق المهدي.