جلس إليه : سراج النعيم
كشف فرح عباس والد شهيد الترس عباس القصة الكاملة لاستشهاد نجله في فض الإعتصام من أمام القيادة العامة بالخرطوم.
وقال : الشهيد عباس من مواليد العام ١٩٩١م بالسعودية، ودرس بها جزء من تحصيله الاكاديمي حتى الفرقة الثالثة مستمعاً، ورغماً عن ذلك كان أول دفعته طوال إقامتي بالمملكة العربية التي كنت أعمل فيها بشركة تبوك الزراعية، ومن ثم عدت إلى السودان واستقر بنا المقام بمنطقة ابوعشر بولاية الجزيرة، وعليه واصل نجلي دراسته بمدرسة صهيب الرومي، والتي استمر من خلالها في تفوقه العلمي على مستوى المنطقة التي يوجد بها ما لا يقل عن ١٣ مدرسة، فكان هو الأول على دفعته، وحينما جلس لامتحان شهادة الأساس جاء ترتيبه الثاني، ومن ثم انتقل من ولاية الجزيرة إلى الخرطوم بعد أن تم استيعابه في مدرسة المجمع اليمني النموذجية، وجلس لامتحان الشهادة السودانية، فحاز على نسبة عالية جداً ليتم على خلفية ذلك قبوله في جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا ـ كلية الهندسة المدنية، وتأخر من تخرجه لمدة عام نسبة إلى أن لديه رؤى حول التعليم في السودان حيث أنه يعتبر التعليم الهندسي يجب أن لا يكون نظرياً فقط، بل يجب أن يكون عملياً، فهو كانت لديه أفكاره الخاصة التي اضطرته إلى التأخر لمدة عام عن التخرج من الجامعة في العام ٢٠١٣م إلا أنه تخرج في العام ٢٠١٤م، وفي ذات العام عمل في شركة ليدر ، فكان مهندساً ومصمماً ومنفذاً للعمل، وتدرج فيه إلى أن أصبح مديراً للورشة بتلك الشركة، ومنها انتقل إلى شركة ايكو ، ونفذ من خلالها عدد من المشاريع، وآخر مشروع سلمه لها يقع في شارع النيل، وذلك قبل ١٥ يوماً من استشهاده.
وأضاف : كان لدى الشهيد قناعات تامة وراسخة حول وطنه السودان، خاصة فيما يعانيه من أوضاع اقتصادية مذرية، لذا كان حريصاً على إحداث التغيير في السودان.
ما هي قناعاته التي أشرت لها؟
دائماً ما يقول لحظات الموت ليست هي نهاية الحياة، بقدر ما أنها بداية حياة جديدة يخلد من خلالها الإنسان اسمه بأحرف من نور، وعلى هذا النحو فإنه لا ينسى، ويظل يذكره الناس والمجتمع بما قدمه، ومن خلال حديثه سالف الذكر كنت أحس بأنه يتنبأ بدنو أجله، أي أن الحياة بالنسبة له قصيرة نعم قصيرة جداً، كما أنه كان يقول : السودان للسودانيين دون عنصرية أو قبلية أو جهوية أو تمييز باللون الأبيض أو الأسود وحتى البرتقالي.
وأردف : كان الشهيد عباس يمتاز بأنه كان لاعباً مميزاً في كرة القدم ، وكان يفترض أن يسجل لأندية عريقة إلا إنني رفضت الفكرة جملة وتفصيلا، وأكدت له أن الهندسة مع ممارسة الرياضة لا تتوافق، ورغماً عن ذلك لم يترك هوايته وظل يمارسها من خلال ملاعب الخماسيات المختلفة، وكان يتحسر على ما فاته من كسب وكأنني فوت عليه تلك الفرصة، فكانت هماً من همومه، وأيضاً القراءة، وكتابة قصاصات الشعر والخواطر التي كان ممتازاً فيها وكان ممتازاً في لغته العربية والإنجليزية كتابة وتخاطباً، ودائماً ما أدير معه حوارات فأحس أن في اجاباته عمق يشير إلى أن فهمه للأشياء مختلفاً عن أقرانه، ويتعامل مع الحاسوب بقدرات عالية جداً، لذا كنت استعين به في عملي، بالإضافة إلى أنه كان متميزاً في مادة الرياضيات، وقد سجل لنا نجاحات كثيرة.
وتابع : أما في الجانب الإنساني، فهو إنسان بكل ما تحمل هذه الكلمة من معني، ولا أقول هذا لأنني والده ولكن من خلال الأشياء التي ظهرت لي بعد استشهاده، إذ اتضح أنه ناشطاً فيها، فلا يتوقف عن مد يد العون لأي إنسان على وجه هذه البسيطة، فحتى راتبه قد ينفقه في نفس اليوم الذي صرفه فيه إلا أنه يصرفه فيما هو مفيد، وبما إنني أعرفه فيما ينفقه لا اسأله نهائياً ، ومثل هذا العمل الإنساني يعتبره جزءاً منه، وفي هذا السياق جاءني أحدهم وقال لي وهو يبكي : طلبت من الشهيد أن يحول لي عشرين جنيهاً، فتفاجأت به يرسل لي ٨٥٠ جنيهاً، وأنا متأكد تماماً أن المبلغ الذي أشار إليه ذلك الشاب هو آخر ما في جيب نجلي، ويأتي إليه زملائه في شركة ليدر فهم مخلصين لذا أشكرهم على عدم توقفهم عن زيارتنا حتي بعد استشهاد ابني عباس ، وكان الشهيد كلما جاءوا إليه يصر على أن أجلس معهم، فكنت أقول له أنتم شباباً لذا سأدعكم لوحدكم، فكان يقول لي : لا فأنا افتخر واعتز بك والداً لي وأريد أن أعرفك بهم، مما يضطرني للاستجابة، ومن ثم مغادرة المكان إلى مكان آخر داخل المنزل، وكنت لا اتعامل معه كوالد لابنه رغماً عن أنه ليس هو أكبر الأسرة، ولكن كان قريباً مني حتى في الغرفة يجلس معي، ودائماً ما نتناقش في الموضوعات الخاصة والعامة، وبالتالي فهو ليس فقداً لي أنا فقط، بل فقد للشعب السوداني ككل، فهو وضع بصمات في هذه السن الصغيرة أعتبرها بصمات كبيرة، واتذكر إنني في مرة قلت لاصدقائه الذين جاءوا أكثر من مرة بعد استشهاده أشكركم على تواصلكم معنا، فقالوا : نحن إذا جئنا إليكم في أي لحظة لن نوفي الشهيد عباس حقه، فما كان يفعله هو نحن لا نستطيع فعله ، وأذكر إنني كنت أريده أن يساعدني في العمل، وصادف ذلك أن لديه زواج صديقه في ولاية الجزيرة، فما كان من أصدقائه إلا الاتصال به لكي يرافقهم في هذه الرحله، فقال لهم : أنا لدى شغل مع والدي، لذا لا استطيع الذهاب معكم اليوم، وسوف الحق بكم في اليوم التالي، وبما أنهم يرغبون في اصطحابه معهم قالوا له : نحن مفلسين ، فما كان منه إلا وسألني هل بحوزتك قروش ؟ فقلت : نعم، فأخذ مني مبلغاً وغادر مكان العمل وأنا لا أسأله،وقال لي أصدقائه عندما وصلنا الشهيد عباس في جامعة أفريقيا لم نكن نريد مالاً بل كنا نريد أن نصطحبه معنا، إذ تفاجأنا به مؤجراً عربة لتقلنا من الخرطوم إلى ولاية الجزيرة، وعندما وصلنا مكان المناسبة فاجأنا أيضاً بأن كتب اسماءنا جميعأ ودفع لنا في كشف العرس، وعرفت أيضآ أنه كان مهتماً بأطفال الشوارع.
ومضى : كان الشهيد فاعلاً في المواكب التي نظمتها ثورة ديسمبر المجيدة، حيث أنه قاد الكثير منها وكان لا يتأخر نهائياً، فهو كان يفترض أن يكون شهيداً قبل استشهاده من خلال فض الاعتصام من أمام القيادة العامة بالخرطوم، وقد عرض على أحد أصدقائه مقاطع فيديوهات له يتوجه من خلالها ناحية الأجهزة الأمنية التي كانت تقمع المتظاهرين في تلك الأثناء، فلم يكن يعرف الخوف، ومن خلال تلك المواكب هزته الكثير من المواقف، وقد قاد موكباً خصيصاً من أجل الطفل الذي استشهد أثناء المظاهرات، إذ حز في نفسه ذلك كثيراً، وكان يناقشني في من استشهدوا بالرصاص الحي الذي اطلقته عليهم أجهزة أمن الرئيس المخلوع عمر البشير، وقال لي متى ما كانت هنالك مساحة لهذا الوطن فإنني سأسعى إلى أن أحقق له كل مافي وسعي، فهل أنت لديك أي مانع؟ فقلت : قطعاً لا، وكان أن سلم عمله المكلف به وتفرغ تماماً لمواكب ثورة ديسمبر المجيدة الداعية للتغيير وأن يكون الحكم في البلاد بحكم المواطنة.
وذكر : يوم الاستشهاد هو اليوم الوحيد الذي كان بالنسبة لنا وداعاً، فقد حرص في ذلك اليوم على تناول وجبة إفطار رمضان معنا، وصلى بنا صلاة المغرب، وبقي في المنزل إلى أن تناول معنا وجبة العشاء، والسحور وذهبنا إلى صلاة الصبح في الجامع، وبعد صلاة الصبح كانت هنالك مناداة من قوى التغيير على أساس أنه سيتم فض الاعتصام من أمام ساحة القيادة العامة بالخرطوم، وكان أن قال لشقيقته هذا هو الوقت الذي يجب أن نحرس فيه التروس بتاعتنا، وعلى خلفية ذلك ذهب مباشرة إلى ساحة الاعتصام أمام القيادة العامة بالخرطوم، واستشهد في حراسته للترس برصاصتين في الرئة والقفص الصدري.
وماذا؟
تلقينا خبر استشهاد نجلي عباس من خلال صديقات شقيقته، إذ قلن لها أنهن شاهدن صورة شقيقها منشورة عبر الفيس بوك و قناتي الجزيرة و العربية ، وفي ذلك الوقت كان قد أطلق عليه الرصاص في الكلينك أي ضرب قبل أن يصل إلى ترسه، ومن الكلينك ظل يمشي رغماً عن الإصابة إلى أن وصل مستشفي رويال كير التي ذهبت إليها في تلك الظروف الصعبة، وبعد خمس دقائق من وصولي أبلغني الأطباء أنه متوفي إلى رحمة مولاه، وكان أن باشرنا عملية تشييع جثمانه إلى مثواه الأخير، والقضية قضية نجلي عباس وقضية كل الشهداء كما تعلم أخي سراج النعيم.
كأسر شهداء هل تم فتح بلاغات؟
نعم فتحت بلاغات بأسماء أسر شهداء فض الإعتصام من أمام مقر القيادة العامة بالخرطوم.
وماذا عن لجنة التحقيق في فض الاعتصام؟
لجنة فض الاعتصام لم تستجوب أي أسرة من أسر شهداء فض الاعتصام، ونحن كأسر للشهداء فتحنا بلاغتنا، وتركنا لجنة التحقيق في فض الاعتصام تحقق فيما يليها، ونحن نتابع إجراءات بلاغتنا الجنائية، والمسارين يعملان ورغماً عما نطالعه ما بين الفينة والأخرى حولها، فأنا لا أتوقع أن تكون هنالك عدالة في هذه الفترة القريبة، لكن هي حقوق، لذا نقول للجناة لن تفلتوا من العقاب إن طال الزمن أو قصر، وعند الله تجتمع الخصوم، نحن عند اجتماعنا هناك سيعلم الخصم تماماً أن حقوقنا عند رب العالمين موجوده، ومن لا يؤمن بهذه الشرعية نطالبه بأن يعود إلى من قالوا له لحسة كوع وإلى من قالوا : ما بنسلمها إلا لعيسي عليه السلام ، فيسألوهم أين كانوا بالأمس، وأين هم الآن؟ فأنتم إذا نظرتم بهذه النظرة، فأرجو أن تكونوا شجعاناً وتسجلوا أسمائكم للتاريخ في سجلاته الناصعة البياض فهو ملئ بكل القيم، وإن لم تفعلوا ذلك فانكم سوف تكونون في صفحات التاريخ السوداء القبيحة الموجودة لكل إنسان سيئ.
وماذا عن العقاب في الدنيا؟
لن نخسر قضايانا، لن نتوقف عن مسارات المطالبة بحقوقنا، فنحن إن شاء الله لن نتوقف، وستظل رسالتنا إلى كل الأجيال المتعاقبة، فنحن لا نريد لمن دبر وخطط وقتل أن يهنأ بما اقترفت يداه، وكأنه يمارس ذلك الفعل في الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالي، فالانسان الذي ينتهج ذلك النهج نريد إيقافه عند حده، وأن نقومه فهو يحتاج إلى دراسة نفسية، لأن الله سبحانه وتعالي قال أنا خلقت الإنسان، ونفخت فيه من روحي، وعظمته من بين جميع المخلوقات، إذن لا يملك قتله أو إنهاء حياته إلا رب العالمين، فهل أنت تتدخل في حكم من أحكام الله سبحانه وتعالى، هكذا تقتله لمجرد أنه حمل أفكاراً مناوئة لافكارك، هل تفعل ذلك لأنك لديك سلاح ألا تعرف أنه لحماية الشعب السوداني الذي يستقطع من قوته لكي يتم شراء ذلك السلاح، نحن نفتكر أنه سيأتي يوم وتعرفون هذه الحقيقة، فنحن لن نغفر لمن قتل أبنائنا، ولن نترك الجناة يمرحون ويفلتون من العقاب، وأنا أقول هذا لأنني حريص على أبناء الشعب السوداني من حيث أن لا تكون هنالك دماء آخرى، وأن لا يكون هنالك سفاكين للدما
كشف فرح عباس والد شهيد الترس عباس القصة الكاملة لاستشهاد نجله في فض الإعتصام من أمام القيادة العامة بالخرطوم.
وقال : الشهيد عباس من مواليد العام ١٩٩١م بالسعودية، ودرس بها جزء من تحصيله الاكاديمي حتى الفرقة الثالثة مستمعاً، ورغماً عن ذلك كان أول دفعته طوال إقامتي بالمملكة العربية التي كنت أعمل فيها بشركة تبوك الزراعية، ومن ثم عدت إلى السودان واستقر بنا المقام بمنطقة ابوعشر بولاية الجزيرة، وعليه واصل نجلي دراسته بمدرسة صهيب الرومي، والتي استمر من خلالها في تفوقه العلمي على مستوى المنطقة التي يوجد بها ما لا يقل عن ١٣ مدرسة، فكان هو الأول على دفعته، وحينما جلس لامتحان شهادة الأساس جاء ترتيبه الثاني، ومن ثم انتقل من ولاية الجزيرة إلى الخرطوم بعد أن تم استيعابه في مدرسة المجمع اليمني النموذجية، وجلس لامتحان الشهادة السودانية، فحاز على نسبة عالية جداً ليتم على خلفية ذلك قبوله في جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا ـ كلية الهندسة المدنية، وتأخر من تخرجه لمدة عام نسبة إلى أن لديه رؤى حول التعليم في السودان حيث أنه يعتبر التعليم الهندسي يجب أن لا يكون نظرياً فقط، بل يجب أن يكون عملياً، فهو كانت لديه أفكاره الخاصة التي اضطرته إلى التأخر لمدة عام عن التخرج من الجامعة في العام ٢٠١٣م إلا أنه تخرج في العام ٢٠١٤م، وفي ذات العام عمل في شركة ليدر ، فكان مهندساً ومصمماً ومنفذاً للعمل، وتدرج فيه إلى أن أصبح مديراً للورشة بتلك الشركة، ومنها انتقل إلى شركة ايكو ، ونفذ من خلالها عدد من المشاريع، وآخر مشروع سلمه لها يقع في شارع النيل، وذلك قبل ١٥ يوماً من استشهاده.
وأضاف : كان لدى الشهيد قناعات تامة وراسخة حول وطنه السودان، خاصة فيما يعانيه من أوضاع اقتصادية مذرية، لذا كان حريصاً على إحداث التغيير في السودان.
ما هي قناعاته التي أشرت لها؟
دائماً ما يقول لحظات الموت ليست هي نهاية الحياة، بقدر ما أنها بداية حياة جديدة يخلد من خلالها الإنسان اسمه بأحرف من نور، وعلى هذا النحو فإنه لا ينسى، ويظل يذكره الناس والمجتمع بما قدمه، ومن خلال حديثه سالف الذكر كنت أحس بأنه يتنبأ بدنو أجله، أي أن الحياة بالنسبة له قصيرة نعم قصيرة جداً، كما أنه كان يقول : السودان للسودانيين دون عنصرية أو قبلية أو جهوية أو تمييز باللون الأبيض أو الأسود وحتى البرتقالي.
وأردف : كان الشهيد عباس يمتاز بأنه كان لاعباً مميزاً في كرة القدم ، وكان يفترض أن يسجل لأندية عريقة إلا إنني رفضت الفكرة جملة وتفصيلا، وأكدت له أن الهندسة مع ممارسة الرياضة لا تتوافق، ورغماً عن ذلك لم يترك هوايته وظل يمارسها من خلال ملاعب الخماسيات المختلفة، وكان يتحسر على ما فاته من كسب وكأنني فوت عليه تلك الفرصة، فكانت هماً من همومه، وأيضاً القراءة، وكتابة قصاصات الشعر والخواطر التي كان ممتازاً فيها وكان ممتازاً في لغته العربية والإنجليزية كتابة وتخاطباً، ودائماً ما أدير معه حوارات فأحس أن في اجاباته عمق يشير إلى أن فهمه للأشياء مختلفاً عن أقرانه، ويتعامل مع الحاسوب بقدرات عالية جداً، لذا كنت استعين به في عملي، بالإضافة إلى أنه كان متميزاً في مادة الرياضيات، وقد سجل لنا نجاحات كثيرة.
وتابع : أما في الجانب الإنساني، فهو إنسان بكل ما تحمل هذه الكلمة من معني، ولا أقول هذا لأنني والده ولكن من خلال الأشياء التي ظهرت لي بعد استشهاده، إذ اتضح أنه ناشطاً فيها، فلا يتوقف عن مد يد العون لأي إنسان على وجه هذه البسيطة، فحتى راتبه قد ينفقه في نفس اليوم الذي صرفه فيه إلا أنه يصرفه فيما هو مفيد، وبما إنني أعرفه فيما ينفقه لا اسأله نهائياً ، ومثل هذا العمل الإنساني يعتبره جزءاً منه، وفي هذا السياق جاءني أحدهم وقال لي وهو يبكي : طلبت من الشهيد أن يحول لي عشرين جنيهاً، فتفاجأت به يرسل لي ٨٥٠ جنيهاً، وأنا متأكد تماماً أن المبلغ الذي أشار إليه ذلك الشاب هو آخر ما في جيب نجلي، ويأتي إليه زملائه في شركة ليدر فهم مخلصين لذا أشكرهم على عدم توقفهم عن زيارتنا حتي بعد استشهاد ابني عباس ، وكان الشهيد كلما جاءوا إليه يصر على أن أجلس معهم، فكنت أقول له أنتم شباباً لذا سأدعكم لوحدكم، فكان يقول لي : لا فأنا افتخر واعتز بك والداً لي وأريد أن أعرفك بهم، مما يضطرني للاستجابة، ومن ثم مغادرة المكان إلى مكان آخر داخل المنزل، وكنت لا اتعامل معه كوالد لابنه رغماً عن أنه ليس هو أكبر الأسرة، ولكن كان قريباً مني حتى في الغرفة يجلس معي، ودائماً ما نتناقش في الموضوعات الخاصة والعامة، وبالتالي فهو ليس فقداً لي أنا فقط، بل فقد للشعب السوداني ككل، فهو وضع بصمات في هذه السن الصغيرة أعتبرها بصمات كبيرة، واتذكر إنني في مرة قلت لاصدقائه الذين جاءوا أكثر من مرة بعد استشهاده أشكركم على تواصلكم معنا، فقالوا : نحن إذا جئنا إليكم في أي لحظة لن نوفي الشهيد عباس حقه، فما كان يفعله هو نحن لا نستطيع فعله ، وأذكر إنني كنت أريده أن يساعدني في العمل، وصادف ذلك أن لديه زواج صديقه في ولاية الجزيرة، فما كان من أصدقائه إلا الاتصال به لكي يرافقهم في هذه الرحله، فقال لهم : أنا لدى شغل مع والدي، لذا لا استطيع الذهاب معكم اليوم، وسوف الحق بكم في اليوم التالي، وبما أنهم يرغبون في اصطحابه معهم قالوا له : نحن مفلسين ، فما كان منه إلا وسألني هل بحوزتك قروش ؟ فقلت : نعم، فأخذ مني مبلغاً وغادر مكان العمل وأنا لا أسأله،وقال لي أصدقائه عندما وصلنا الشهيد عباس في جامعة أفريقيا لم نكن نريد مالاً بل كنا نريد أن نصطحبه معنا، إذ تفاجأنا به مؤجراً عربة لتقلنا من الخرطوم إلى ولاية الجزيرة، وعندما وصلنا مكان المناسبة فاجأنا أيضاً بأن كتب اسماءنا جميعأ ودفع لنا في كشف العرس، وعرفت أيضآ أنه كان مهتماً بأطفال الشوارع.
ومضى : كان الشهيد فاعلاً في المواكب التي نظمتها ثورة ديسمبر المجيدة، حيث أنه قاد الكثير منها وكان لا يتأخر نهائياً، فهو كان يفترض أن يكون شهيداً قبل استشهاده من خلال فض الاعتصام من أمام القيادة العامة بالخرطوم، وقد عرض على أحد أصدقائه مقاطع فيديوهات له يتوجه من خلالها ناحية الأجهزة الأمنية التي كانت تقمع المتظاهرين في تلك الأثناء، فلم يكن يعرف الخوف، ومن خلال تلك المواكب هزته الكثير من المواقف، وقد قاد موكباً خصيصاً من أجل الطفل الذي استشهد أثناء المظاهرات، إذ حز في نفسه ذلك كثيراً، وكان يناقشني في من استشهدوا بالرصاص الحي الذي اطلقته عليهم أجهزة أمن الرئيس المخلوع عمر البشير، وقال لي متى ما كانت هنالك مساحة لهذا الوطن فإنني سأسعى إلى أن أحقق له كل مافي وسعي، فهل أنت لديك أي مانع؟ فقلت : قطعاً لا، وكان أن سلم عمله المكلف به وتفرغ تماماً لمواكب ثورة ديسمبر المجيدة الداعية للتغيير وأن يكون الحكم في البلاد بحكم المواطنة.
وذكر : يوم الاستشهاد هو اليوم الوحيد الذي كان بالنسبة لنا وداعاً، فقد حرص في ذلك اليوم على تناول وجبة إفطار رمضان معنا، وصلى بنا صلاة المغرب، وبقي في المنزل إلى أن تناول معنا وجبة العشاء، والسحور وذهبنا إلى صلاة الصبح في الجامع، وبعد صلاة الصبح كانت هنالك مناداة من قوى التغيير على أساس أنه سيتم فض الاعتصام من أمام ساحة القيادة العامة بالخرطوم، وكان أن قال لشقيقته هذا هو الوقت الذي يجب أن نحرس فيه التروس بتاعتنا، وعلى خلفية ذلك ذهب مباشرة إلى ساحة الاعتصام أمام القيادة العامة بالخرطوم، واستشهد في حراسته للترس برصاصتين في الرئة والقفص الصدري.
وماذا؟
تلقينا خبر استشهاد نجلي عباس من خلال صديقات شقيقته، إذ قلن لها أنهن شاهدن صورة شقيقها منشورة عبر الفيس بوك و قناتي الجزيرة و العربية ، وفي ذلك الوقت كان قد أطلق عليه الرصاص في الكلينك أي ضرب قبل أن يصل إلى ترسه، ومن الكلينك ظل يمشي رغماً عن الإصابة إلى أن وصل مستشفي رويال كير التي ذهبت إليها في تلك الظروف الصعبة، وبعد خمس دقائق من وصولي أبلغني الأطباء أنه متوفي إلى رحمة مولاه، وكان أن باشرنا عملية تشييع جثمانه إلى مثواه الأخير، والقضية قضية نجلي عباس وقضية كل الشهداء كما تعلم أخي سراج النعيم.
كأسر شهداء هل تم فتح بلاغات؟
نعم فتحت بلاغات بأسماء أسر شهداء فض الإعتصام من أمام مقر القيادة العامة بالخرطوم.
وماذا عن لجنة التحقيق في فض الاعتصام؟
لجنة فض الاعتصام لم تستجوب أي أسرة من أسر شهداء فض الاعتصام، ونحن كأسر للشهداء فتحنا بلاغتنا، وتركنا لجنة التحقيق في فض الاعتصام تحقق فيما يليها، ونحن نتابع إجراءات بلاغتنا الجنائية، والمسارين يعملان ورغماً عما نطالعه ما بين الفينة والأخرى حولها، فأنا لا أتوقع أن تكون هنالك عدالة في هذه الفترة القريبة، لكن هي حقوق، لذا نقول للجناة لن تفلتوا من العقاب إن طال الزمن أو قصر، وعند الله تجتمع الخصوم، نحن عند اجتماعنا هناك سيعلم الخصم تماماً أن حقوقنا عند رب العالمين موجوده، ومن لا يؤمن بهذه الشرعية نطالبه بأن يعود إلى من قالوا له لحسة كوع وإلى من قالوا : ما بنسلمها إلا لعيسي عليه السلام ، فيسألوهم أين كانوا بالأمس، وأين هم الآن؟ فأنتم إذا نظرتم بهذه النظرة، فأرجو أن تكونوا شجعاناً وتسجلوا أسمائكم للتاريخ في سجلاته الناصعة البياض فهو ملئ بكل القيم، وإن لم تفعلوا ذلك فانكم سوف تكونون في صفحات التاريخ السوداء القبيحة الموجودة لكل إنسان سيئ.
وماذا عن العقاب في الدنيا؟
لن نخسر قضايانا، لن نتوقف عن مسارات المطالبة بحقوقنا، فنحن إن شاء الله لن نتوقف، وستظل رسالتنا إلى كل الأجيال المتعاقبة، فنحن لا نريد لمن دبر وخطط وقتل أن يهنأ بما اقترفت يداه، وكأنه يمارس ذلك الفعل في الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالي، فالانسان الذي ينتهج ذلك النهج نريد إيقافه عند حده، وأن نقومه فهو يحتاج إلى دراسة نفسية، لأن الله سبحانه وتعالي قال أنا خلقت الإنسان، ونفخت فيه من روحي، وعظمته من بين جميع المخلوقات، إذن لا يملك قتله أو إنهاء حياته إلا رب العالمين، فهل أنت تتدخل في حكم من أحكام الله سبحانه وتعالى، هكذا تقتله لمجرد أنه حمل أفكاراً مناوئة لافكارك، هل تفعل ذلك لأنك لديك سلاح ألا تعرف أنه لحماية الشعب السوداني الذي يستقطع من قوته لكي يتم شراء ذلك السلاح، نحن نفتكر أنه سيأتي يوم وتعرفون هذه الحقيقة، فنحن لن نغفر لمن قتل أبنائنا، ولن نترك الجناة يمرحون ويفلتون من العقاب، وأنا أقول هذا لأنني حريص على أبناء الشعب السوداني من حيث أن لا تكون هنالك دماء آخرى، وأن لا يكون هنالك سفاكين للدما
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق