الترابي أطاح بشرعية المهدي بانقلاب ثورة الانقاذ الوطني
..................
البشير زج بالسودان في مواجهة دولية بسبب حرب الخليج
..................
حققت الثورة الشبابية السودانية التي انطلقت شرارتها الأولي من مدينة (عطبرة) نجاحاً منقطع النظير في الإطاحة بحكم الرئيس المخلوع عمر البشير، والذي ظل على سدة حكم البلاد بالقهر، التهميش، الإهانة، الإذلال، البطش، الظلم والقتل على مدي ثلاثة عقود متصلة دون انقطاع، وذلك منذ أن ترأس هو النظام العسكري المنقلب على حكومة الأمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة المنتخب عبر صناديق الاقتراع في العام 1989م، وهو الانقلاب الذي قاده الدكتور الراحل حسن عبدالله الترابي زعيم الجبهة الاسلامية القومية في السودان وقتئذ، والذي اختار (البشير) بحكم أنه كان الرتبة العسكرية الاعلي من بين ضباط ثورة الانقاذ الوطني، وبدوره قال الرئيس المعزول في مرحلة تمكين الإسلاميين : (ثورة الإنقاذ الوطني لا تعرف الفصل بين الدين والسياسة والموضوع غير قابل للنقاش) بهذه الكلمات حسم الجدل الدائر في هذا الإطار.
ومما أشرت له فإنه، وفي السادس من أبريل من العام 1985م، انتفض الشعب السوداني ضد حكم الرئيس المشير الراحل جعفر نميري بعد سنوات حكم امتدت (16) ربيعاً، وما أن اطالح الشعب السوداني بالنميري، وحقق إرادته التواقة للحرية، العدالة والسلام إلا وشهدت البلاد انتخابات حرة ونزيهة من خلال صناديق الاقتراع، والتي فاز على إثرها حزب الأمة برئاسة الأمام الصادق المهدي بالأغلبية، إلا أنه لم يستأثر بالحكم وحده، ولم يقص أي حزب أو تنظيم سياسي أو حركة مسلحة، إنما شكل حكومة ائتلاف مع الحزب الاتحادي الديمقراطي برئاسة مولانا الميرغني، ولم يتوقف (المهدي) عند إشراك الحزب الاتحادي الديمقراطي في السلطة، بل واصل نهجه الانفتاحي على معارضيه وقام بإشراك الأطراف المناوئة له، إذ أنه عقد ائتلافاً مع الشيخ حسن عبدالله الترابي زعيم الجبهة الإسلامية القومية في العام 1989م، والذي على إثره عينه نائباً لرئيس الوزراء، إلا أن الشيخ الترابي وتنظيمه الإسلامي فضوا الشراكة مع الحكومة باستقالة الدكتور حسن الترابي من منصبه بحجة أن الإمام الصادق المهدي رئيس الوزراء السابق دخل في مفاوضات سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة الدكتور جون قرنق دي مبيور، وتوصل من خلالها إلي اتفاق يفضي إلي إيقاف إطلاق النار من جانب الطرفين، ولم تكتف حكومة المهدي بذلك، بل ألغت قانون الشريعة الإسلامية وحلت الطوارئ، وأبطلت التحالفات العسكرية مع (مصر) و(ليبيا)،
وهذه القرارات كانت سبباً رئيسياً لإسقاط الدكتور حسن الترابي لنظام حكم الإمام الصادق المهدي الشرعي مستفيداً من بعض الضباط التابعين إلي قوات الشعب المسلحة والذين نفذوا الانقلاب في الثلاثين من يونيو من العام 1989م وقد منح الترابي قيادة الانقلاب للعميد ركن وقتئذ (عمر حسن أحمد البشير)،
وعندما اتجه زعيم الجبهة الإسلامية القومية على هذا النحو كان يهدف إلي تمويه الشعب السوداني إذ أنه ذهب إلي المعتقل في كوبر (حبيساً) فيما ذهب الرئيس المخلوع عمر البشير إلي القصر الجمهوري (رئيساً) حتى لا ينكشف أمر انقلاب ثورة الانقاذ الوطني ومهندسه (الترابي)،
ومع هذا وذاك عمد مخططو الانقلاب للمزيد من التمويه باعتقال عدد من الرموز والقيادات السياسية في البلاد، ومن ثم إطلاق سراحهم فيما بعد، بالإضافه إلي أن الرئيس المخلوع عمر البشير حل البرلمان والأحزاب والتنظيمات السياسية والنقابات والاتحادات المنتخبة بصورة شرعية.
بينما خطط الدكتور حسن الترابي تخطيطاً دقيقاً للانقلاب على شرعية الإمام الصادق المهدي في الثلاثين من يونيو من العام 1989م وهو التاريخ الذي تفاجأ على إثره الشعب السوداني ببيان ثورة الإنقاذ الوطني من خلال تلفاز السودان، والذي أعلن عبره العميد ركن آنذاك المخلوع عمر البشير عن استيلاءه وعدد من ضباط قوات الشعب المسلحة على السلطة في البلاد وإلي تلك اللحظة لم تكن الرؤية واضحة للمراقبين للمشهد السياسي والعسكري وعامة الناس في السودان، ولم تفلح الاستنتاجات والتكهنات، ولم يتسن لهم جميعاً معرفة من هم الضباط الانقلابين وإلي أي حزب أو تنظيم سياسي ينتمون، وبما أن الغموض يكتنف ذلك نالوا تأييداً حذراً في الداخل والخارج، أي أنهم استطاعوا أن يخدعوا إنسان السودان من واقع عدم انتمائهم للتيارات السياسية التي تقف دائماً خلف الانقلابات العسكرية، وهو ما فعلته الجبهة الإسلامية القومية في الإطاحة بنظام حكم الإمام الصادق المهدي المنتخب والمعترف به دولياً وعليه بدأت تتكشف حقيقة ثورة الإنقاذ الوطني للسودانيين والمجتمع الدولي من خلال إظهار بعض قياداتها انتمائهم إلي تنظيم الجبهة الإسلامية القومية بزعامة الدكتور حسن الترابي، وهي الرؤية التي اتضحت تدريجياً وبشكل أكثر وضوحاً بعد أخلاء سبيل الشيخ حسن الترابي، ومن ثم تقلده مناصب مهمة جداً في الدولة، وكان آخرها رئيس المجلس الوطني، أي أن ثورة الإنقاذ الوطني وضعت الشعب السوداني والمجتمع الدولي أمام خيار واحد لا ثان له مما جعلها تواجه معارضة قوية جداً من معظم دول العالم، واشتدت المعارضة عندما أعلن النظام المعزول تطبيق الشريعة الإسلامية والتي لم يطبقها يوماً واحداً طوال الثلاثة عقود، بل كان يستدر بها العطف لإيمانه القاطع بأن الديانة الإسلامية متجذرة في دواخل السودانيين بالفطرة، وهكذا أصبح يستنزف في موارد وثروات البلاد تحت غطاء التحديات الداخلية والخارجية، ومع هذا وذاك خاض حرباً ضروساً مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، مما أدي إلي إنفاق موارد ثروات البلاد في تلك الحرب التي انتهت بفصل جنوب السودان بالاتفاقية الموقعة بين الحكومة برئاسة الأستاذ على عثمان محمد طه، والحركة الشعبية لتحرير السودان برئاسة الدكتور جون قرنق دي مبيور بضاحية (نيفاشا)،
وهي الاتفاقية التي مارس في ظلها المجتمع الدولي ضغوطاً كبيرة على الحكومة السودانية لتضع حداً للإشكالية القائمة بينها والحركة الشعبية المنحدرة من جنوب السودان، وعلى هذا النحو فإن الرئيس المخلوع عمر البشير كان يكابر ويتحدى في العالم دون النظر إلي مصلحة البلاد والعباد، بل كان يعمل ضده بالتعنت وعدم الاذعان لصوت الحكمة والعقل الذي يجنب السودان الدخول في صراعات مع المجتمع الدولي الذي فرض العقوبات والحصار الاقتصادي على السودان، وبالرغم من تلك القرارات الدولية الصادرة في حق البلاد، والمتأثر منها أولاً وأخيراً المواطن إلا أن النظام السابق كان يروج عبر آلياته الإعلامية إلي أنه مستهدف من أعداء الديانة الإسلامية في الداخل والخارج وذلك لعلمه التام بأن الشعب السوداني على اختلاف انتماءاته السياسية يميناً ويساراً لا يقبل المساس بها، لذلك ظل النظام المعزول يستميل العواطف ويتمادي في عدائه غير المبرر للدول العظمي كالولايات المتحدة الأمريكيه وروسيا وغيرهما من الدول الغربية المؤثرة في السياسات العالمية، وعندما دارت حرب الخليج الأولى أزداد أعداء النظام المخلوع الذي يدعي الإسلام زوراً وبهتاناً، ووصل الأمر إلي زروته، ومع نشوب حرب الخليج الثانية انحاز نظام الرئيس المعزول لـ(العراق)،
فلم تجد الولايات المتحدة الأمريكية بداً سوي أن تفرض الحصار والمقاطعة الاقتصادية على السودان، ووجدت تلك القرارات تأييداً من الدول الأوروبية ودول الخليج المتضررة من اجتياح صدام حسين لـ(الكويت)،
مما أدى إلي تدهور الاقتصاد السوداني بصورة بالغة التعقيد، وأصبحت الأزمات المتوالية عنواناً رئيسياً وبارزاً مع اشراقة كل صباح جديد، المهم أنها حاولت كسب ود بعض الدول العظمي بتقديم الإغراءات الاستثمارية والتي فتحت في إطارها الأبواب مشرعة لـ(الصين) للاستفادة من النفط السوداني الموجود في باطن الأرض، وعلى خلفية ذلك استطاعت التنقيب الذي أسفر عن استخراج البترول ، والذي أستقر من خلاله سعر الصرف، وبالرغم عن هذه البشريات إلا أنه تصاعد بشكل مفاجئ إلى أن بلغ (3000) جنيهاً سودانياً، بل تجاوزها بكثير في السوق الموازي، وذلك قبل أن ينخفض إلى (2000) جنيه سوداني.
فيما أتهم نظام الرئيس المعزول عمر البشير بتدبير محاولة اغتيال الرئيس المصري المخلوع (حسني مبارك) في سبتمبر من العام 1995م بالعاصمة الإثيوبية (اديس ابابا)،
وهذا الاتهام قاد البلاد إلي مالآت خطيرة نتج عنها توجيه الإتهام له بـ(إيواء) الإرهابيين (كارلوس) و(أسامة بن لادن)،
وبما أن النظام السابق أنتهج سياسة عدائية داخلياً (المعارضة) بشقيها اليمين واليسار، وخارجياً (المجتمع الدولي) ،
و هذا الأمر حدا بالبشير أن يتخذ قرارات ديكتاتورية حل بموجبها البرلمان، وأعلن حالة الطوارئ في البلاد في العام 1999م، وذلك خوفاً من إجراء تعديل في الدستور السوداني وبالتالي تصبح سلطاته القمعية محدودة، خاصة وأنه كان يقود صراعاً ضد الدكتور حسن عبدالله الترابي، ومن تبعه من الإسلاميين لحظة الاختلاف الذي حدث وعرف بالمفاصلة والمعروفة سياسياً بـ(قرارات رمضان)،
والتي بدأ يتكشف بعدها (الفساد) المستشري في مفاصل الدولة العميقة، وهكذا ظل الطرفان يتبادلان الاتهامات المتمثلة في التوظيف بالولاء وليس بالمؤهل أو الكفاءة وبالإضافة إلي استغلال المناصب وتسخيرها للمكاسب الشخصية، إلي جانب سوء إدارة موارد وثروات البلاد.
وفي سياق الانشقاق الذي حدث بين (البشير) و(الترابي) تم في مايو من العام 2000م نشر مؤلفاً يحمل عنوان (الكتاب الأسود) في الخرطوم، والذي شمل توثق دقيق لمعلومات وأحداث وانتهاكات حقيقية قام بها النظام (البائد) في حق المواطن الاعزل في جنوب وغرب ووسط السودان، والذي قوبل بسياسة التمييز، التهميش، القمع، الوحشية والقتل الذي شهده إقليم دارفور المضطرب منذ العام 2003م، وقد تم تصعيد قضيته دولياً مما دفع مجلس الأمن إلي تسجل انتهاكات لحقوق الإنسان، وأصدر بموجبها عدداً من القرارات الحاسمة، ومارس ضغوطات دولية جعلت النظام المعزول يوافق على توقيع برتوكول تقاسم السلطة والثروة والبروتوكلات المتعلقة بالمناطق الثلاثة في العام 2004م، والتزمت الأحزاب السياسية بإعلان (نيروبي)،
وتنفيذ الاتفاق الموقع بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان، وفي العام 2005م تم التوقيع على اتفاقية (نيفاشا) التي أوقفت أطول حرب شهدها العالم، وفي العام 2011م اختار الجنوبيين تقرير مصيرهم بالبقاء أو الانفصال عن السودان، وإنشاء دولة مستقلة ذات سيادة، وجاءت نتائج الاستفتاء الذي أجري وسط الجنوبيين مؤيداً للانفصال عن الشمال بنسبة (98% ).
عموماً تمت الإطاحة بذلك النظام الذي عبر في إطاره الشعب السوداني عن فرحته الغامرة مردداً سوف نصوم رمضان بدون كيزان وغيرها من الشعارات الجاذبة، بالإضافة إلي إنزال وإحراق صور الطاغية التي كانت تملأ شوارع الخرطوم، إلا أن البيان الذي ذاعه الجنرال عوض ابنعوف كان مخيباً لآمال الثورة الشبابية السودانية، إذ أشار من خلاله إلي انتقال السلطة لقوات الشعب المسلحة، وحدد فترة حكمه الانتقالي للبلاد بالعامين من تاريخه إلي جانب أنه عطل الدستور، وإعلان حالة الطوارئ، وهو الأمر الذي جعل الكثيرين يتخوفون من مصير السودان في ظل ذلك، الأمر الذي قاد إلي المطالبة بتنحي ابنعوف، والذي خلفه الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري الانتقالي.
مما
جري خلال الأيام الماضية طرحت الكثير من الأسئلة حول ما الكيفية التوافقية لتشكيل حكومة مدنية يقبل بها شباب الثورة السودانية الذين كان لهم القدح المعلي في (خلع) الرئيس المعزول (عمر البشير) من منصبه، وهل مزج نظام الحكم عسكرياً ومدنياً يمكنه أن يقود البلاد إلي تحول ديمقراطي؟.
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق