......
إن فيروس (كورونا) المستجد سيطر سيطرة تامة على اهتمام العالم بأسره، وأصبح المشهد من خلاله يجسد معاناة الإنسان بصورة غير مسبوق، وذلك لعدم توفير أبسط مقومات الحياة لمواجهة (كوفيد-19)، والذي تتخذ في إطاره التدابير الاحترازية الوقائية المقيدة لحركة الإنسان، لذلك السؤال الذي يطرح نفسه هل قرار الحظر شبه الشامل قصد منه تغطية الأزمات الاقتصادية المتمثلة في (الوقود) ، (الدقيق) و(غاز الطهي)، والتي فشل في ظلها الساسة من ايجاد الحلول للظروف الاقتصادية، والتي تمضي دون جديد سوي قرار الحظر، والذي لم تراع فيه الحكومة للظروف الاقتصادية القاهرة التي يمر بها إنسان السودان، مضافا إليها التدابير الاحترازية الوقائية، والتي ضاعفت من معاناة المواطن، وبالمقابل نجد أن هنالك دولا تسعي لتخفيف التدابير الاحترازية الوقائية على مواطنيها، ولكن حكومتنا تشدد في تنفيذ قرار الحظر لمدة (٢١) يوماً دون أن تضع في الاعتبار كيفية قضاء المواطن لتلك الفترة، والتي يعتمد في ظلها على رزق اليوم باليوم.
إن الإستراتيجية الإحترازية الوقائية المتخذة من قبل السلطات السودانية بعيدة كل البعد عن الأوضاع الاقتصادية الضاغطة على الأسر السودانية الفقيرة، فهنالك أسرا تتناول وجبة واحدة طوال اليوم، وحتي هذه الوجبة لا تستطيع الحصول عليها إلا إذا ذهب العائل للعمل.
وفي هذا السياق حدثني صديقي بأنه يعرف رب أسرة ينهض من النوم في الصباح الباكر ليتوجه إلى مكان عمله لاقتراض مبلغ (١٠٠) جنيه من المستخدم، ومن ثم يحول المبلغ عبر خدمة تحويل الرصيد إلى زوجته، والتي يصل إليها (٩٠) جنيهاً، وذلك بعد أن يتم الخصم منه (١٠) جنيهات، مع العلم بأن طلب الفول الواحد سعره (٧٠) جنيهاً، وهو وجبة لشخص واحد، فما بالك لو كان لدي هذه الأسرة أو تلك أطفال، هكذا قيس كم.. وكم أسرة تمر بظروف اقتصادية بالغة التعقيد، ومثل هذه الأسر أن لم تموت بجائحة (كورونا)، فإنهم ستموت (جوعا)، وأن كانت الأوضاع الاقتصادية الضائغة ليست وليدة اللحظة، بل هي متوارثة من نظام الرئيس المخلوع (عمر البشير)، والذي جعل الشعب السوداني ينقسم إلى طبقتين طبقة ثرية، وطبقة فقيرة، وما بين هذا وذاك لا توجد طبقة ثالثة، لذلك قرار الحظر يفتقر لأدني مقومات صموده للفترة المحددة لأنه لم يتم النظر إليه من واقع الظروف الاقتصادية، والتي لم تتخذ في إطارها قرارات توقف (الجشع) الذي يمارس من بعض التجار باستغلال الأوضاع الإنسانية لجائحة (كورونا)، وهذا أن دل على شيء، فإنما يدل على فشل السلطات الرسمية في وضع تسعيرة للسلع الاستهلاكية الضرورية المنقذة للحياة، كما أنها لم تستطع توفير (الوقود)، والذي نجم عنه مظهر صفوف السيارات أمام الطلمبات، مما اضطر سلطات ولاية الخرطوم إغلاقها، ولكن ماذا ستفعل مع أزمة (الدقيق)، والذي نتج عنه مشهد صفوف الخبز أمام المخابز، وماذا ستفعل مع أزمة (غاز الطهي)، والذي جعل بعض الأسر تشتريه بالسوق السوداء أن وجد، هكذا إنسان السودان يعاني معاناة لا حدود لها، ولا يجد من يمد له يد العون، وإذا وجد من فعل اليوم، فإنه لن يجد من يعطيه غداً، وبالتالي هو لا يعول على العطاء والكرم، بقدرما أنه يعول على العمل، لذلك دعوه يعمل ولا تقيدوا حركته بالقوانين بسبب فيروس (كورونا).
إن الوضع الراهن في السودان ينبئ بوضع كارثي خاصة في النواحي الاقتصادية، فالسواد الاعظم يشتري السلع الأساسية بالنظر فقط، ناهيك عن السلع الغذائية نسبة إلى أن الغلاء فاحش، فالسلع الاستهلاكية تشهد يوماً تلو الآخر ارتفاعاً جنونيا، وعليه يجد المواطن نفسه محاصرا بقرار الحظر، وساعات سماح للتحرك لا تكفي لإحضار مستلزمات أسرته إذا وجد أصلاً المال الذي يتسوق به، ومع هذا وذاك الحكومة لا ترخي له يد العطاء بتقديم الوجبة الوحيدة التي يتناولها (مجاناً)، كما لا تفعل مؤسساتها المعنية برفع المعاناة عن كاهل المواطن المغلوب على أمره، لذلك تجده يخرج من منزله بحثاً عن رزقه ورزق أطفاله الذين لا يعرفون له : (ما في أو ما عندي)، هكذا تتعمق المعاناة كلما مر يوم على قرار الحظر، والذي لم تقابله الحكومة بالغذاء الكافي للفترة المقررة، كما أنها لم توفر له الخدمات الصحية المتعلقة بالحظر، والذي يعني أن تقوم بتعقيم الأماكن وتوزيع (الكمامات)، (الجونتيات) و(المعقمات)، وذلك أثناء ساعات الحظر، والذي لم نشهد في إطاره أمراً من هذا القبيل، بل تطالعنا الحكومة بارتفاع الحالات المشتبه فيها بفيروس (كورونا) الذي يشبه في أعراضه أعراض (الإنفلونزا) أو (الالتهابات) أو (الأزمة)، وبهذا المفهوم يكون معظم الشعب السوداني مشتبه في إصابته بجائحة (كورونا)؟.
إن الإشكالية الأساسية ليست في جائحة (كورونا)، إنما الإشكالية في التدابير الاحترازية الوقائية والقرارات المتخذة في ظلها، وهذا يؤكد أن الحكومة الانتقالية لم تدير ملف فيروس (كورونا) بما يجنب المواطن الوقوع في ظروف اقتصادية مذرية، وهذا يعود إلى أن تجربتها وليدة من حيث إدارة الأزمات، وبالتالي ما أن تنتهي (كورونا) إلا وتنتهي معها صلاحية الحكومة الانتقالية.