جلس إليه : سراج النعيم
ورحل الفنان الجميل محمد سلام.. نعم رحل عن دنيانا بكل
الألم والمرارات والحزن الذي يكسو وجهه.. رحل في اللحظة التي كان يصطحب فيها ابنته
الي جامعة الخرطوم.. رحل وهي آخر من تلتقيه وأن جاز التعبير تلقي عليه نظرة الوداع
الأخير ولسان حاله يقول لها : ( أنتي زادي السفر.. هكذا كان رحيله مفاجئاً لكل من
عرفه عن قرب لذلك ابكي رحيله بالسكتة القلبية جمهوره وأهله بمدينة ام دوم التي
توشحت في ذلك اليوم بالسواد مؤكدة مكانة الفنان محمد سلام في قلوب الجميع.
قبل انتقاله بيوم غني في مناسبة زواج بمسرح اتحاد
الفنانين كأنه لم يغن من قبل فاطرب الحضور الذي طلب منه أن يردد لهم أغنيته
الشهيرة ( قام أتعزز الليمون) ومن ثم ظل جالساً في دار اتحاد الفنانين يتأمل ويفكر
كالعهد به لا يغادر الدار إلا في وقت متأخر من صباح اليوم التالي لارتباطه ببعض
الأصدقاء الذين يأتون من حفلاتهم بعد الساعة الحادية عشرة ليلاً.
وحينما عاد إلي منزله بمدينة ام دوم كان أكبر همه أن
يصحو باكراً حتى يذهب إلي ابنته بجامعة الخرطوم التي عندما وصلها كان علي عجالة من
أمره وكأنه كان يحس بدنو أجله في تلك اللحظات.. هذا هو محمد سلام الذي ربطتني به
أواصر صداقة روي لي من خلالها الكثير من المرارات بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة التي
عاشها منذ أن عاد من الاغتراب الطويل بالجماهيرية العربية الليبية الذي أملته عليه
الظروف الاقتصادية القاهرة التي كانت تمر بالبلاد آنذاك الوقت.
وبالرغم من
أنه كان يشكل غياباً عن الحراك الفني في السودان وقد تسيد الساحة قبل هجرته إلا
أنه حين عاد وجد واقعاً مريراً تمثل في تجاهل الأجهزة الإعلامية المختلفة له ولكنه
رغماً عن ذلك كان لا يشكو منها إلا لمن هم أصدقاؤه فهو منذ ظهوره في منتصف سبعينات القرن الماضي ظل يسيطر علي الحركة الفنية في
السودان بإبداعه المتجدد ولم ينقطع ذلك.
المد الإبداعي
إلا بعد أن شد الرحال إلي الجماهيرية العربية الليبية ابان حكم الرئيس الراحل معمر
القذافي ومكث بها ما يربو عن الخمسة عشر عاما متصلة دون انقطاع عاد بعدها لأرض
الوطن يحدوه الأمل ﻗﺒﻞ ﺛﻼﺛﺔ أعوام من تاريخ انتقاله للرفيق الأعلى.
ﺭﺣﻞ ﻣﺤﻤﺪ ﺳﻼﻡ الفنان ﻭﺗﺮﻙ وراءه أرثا
من الأعمال الغنائية الخالدة في ذاكرة الأمة السودانية أبرزها أغنيته (قام أتعزز
الليمون ) التي ارتبطت باسمه ﺗﻠﻚ ﺍﻻﻏﻨﻴﺔ ﺍﻟﺮﺍﺋﻌﺔ التي امتازت بالإيقاع الخفيف الذي طرب بها حتى
الثمالة ..عموما أسأل الله العلي القدير أن يرحمه رحمة واسعة ويدخله فسيح جناته مع
الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.
ﺍﺷﺘﻬﺮ الفنان الراحل محمد سلام بالخلق الحسن وخفة الظل ما
جعله إنساناً محبوباً لدي زملائه وأصدقائه الذين تعرف عليهم أو تعرفوا عليه من
خلال تواجده الدائم باتحاد الفنانين ومن هنا دعونا نقلب صفحات وصفحات من رحلة فنان
شق طريقه بثبات نحو الشهرة والنجومية.
في البدء أستاذ محمد سلام كيف كان أثر الاغتراب الطويل
علي تجربتك الغنائية .. وكيف تعاملت معك القنوات الفضائية بعد العودة لأرض الوطن؟
قال : مما لاشك
فيه أن الغربة لها أثرها البالغ علي تجربتي الفنية قبل أن أسافر إلي الجماهيرية
الليبية العربية فمنذ ظهوري في الحراك الفني من خلال اتحاد الفنانين بمدينة أم
درمان وكنت من الفنانين الذين يشار إليهم بالبنان إلا أن إدارات القنوات الفضائية
المختلفة أسقطت هذه الحقبة التاريخية الهامة في تجربتي وبدأت تتعامل معي علي أساس
أنني فنان مبتدئ وخاصة قناة النيل الأزرق ومدير برامجها الأستاذ الشفيع عبد العزيز
الذي وجدت منه الكثير من الصد ورغما عن ذلك كنت أجد لهم العذر قائلا في غرارة نفسي
أنهم ربما يرون أن الأجيال الجديدة لا تعرف فنانا اسمه ( محمد سلام ) لذلك ﻟﻢ ﻳﻨﺘﺒﻬﻮﺍ لي كفنان لديه من الأغاني ما يؤهله لأن تتاح له الفرصة
لتجديد تجربته لمن عاصروها وتوصيلها لمن لم يعاصروها باعتبار أنني حققت النجومية
والشهرة ﻓﻲ ﻣﻨﺘﺼﻒ ﺳﺒﻌﻴﻨﻴﺎﺕ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ فلو كانت إدارات القنوات تعمل في إعداد برامجها
وسهراتها بنظام الباحث لكان عرفت الأستاذ الأديب الراحل عمر الحاج موسي وزير
الثقافة والإعلام السابق أشار إلي اسم
أغنيتي ( كان بتعزز الليمون ) وذلك من خلال خطاب إبداعي ألقاه في محفل من المحافل
مؤكدا ﺇﻥ ﺍﻟﺮﺋﻴﺲ الراحل محمد ﺟﻌﻔﺮ النميري ﻳﻐﻨﻲ ﻣﻊ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ (ﻗﺎﻡ أتعزز
ﺍﻟﻠﻴﻤﻮﻥ ﻋﺸﺎﻥ ﺑﺎﻟﻐﻨﺎ ﻓﻲ ﺭﻳﺪﻭ).
ماذا أنت قائل عن تجاهل الأجهزة الإعلامية لك كفنان شق
طريقه بثبات؟
قال : عندما لا تنتبه إلي القنوات الفضائية والإذاعات
فهذا يعني أنني بعيد عن المقاييس والمعايير المطلوبة لذلك لم أكن ألومهم علي ذلك
التجاهل ﻷنني عشت في وجدان الأمة السودانية بترديد الغناء الأصيل وأن كنت علي
قناعة أنه من حقي كفنان وضع بصمته في تاريخ الأغنية السودانية ولا يمكن أن يضع تلك
البصمة إلا الفنان الحقيقي في ظل ما يطرح من غناء أقل ما يوصف بالركيك.
دعنا ننتقل بالحوار إلي شق آخر فالقنوات الفضائية
والإذاعات لا تقيم المبدعين والإبداع لذلك من أين جاء محمد سلام للحركة الفنية وما
قصة أنك أصلا كنت لاعب كرة قدم ضل طريقه للغناء؟
اتفق معك حول ما
ذهبت إليه في ما تتبعه الأجهزة الإعلامية مع المبدعين والإبداع أما فيما يتعلق
بسؤالك من أين آتيت؟ فأنا من مواليد حي المدنيين بمدينة مدني حاضرة ولاية الجزيرة
وهناك نشأت وترعرعت إلي أن بدأت تطل علي سكان الحي موهبتي الكروية والفنية ففي
الأول كنت لاعبا له مكانته في الأوساط الرياضية ولو الظروف لكنت الآن نغمة ترددها
فرق العاصمة الخرطوم حيث أنني كنت قاب قوسين أو أدني من التوقيع في كشوفات نادي
الهلال الذي تمرنت معه تمرينا طالب بعده مدرب الفريق أن يتم ضمي إلي فريق الهلال
الذي عمل علي تنفيذ توصية مدربه آنذاك الوقت إذ أن الإدارة المعنية بالتسجيلات
أخذتني إلي غرفة التسجيلات باتحاد كرة القدم وأثناء انتظارنا بها بدأت أغني لهم
أغنية من أغاني الحقيبة فحاز صوتي علي إعجابهم الأمر الذي استدعي اللاعبين جميعا
أن ينصحوني بترك كرة القدم والتوجه إلي الغناء حتى لا تضيع موهبتي الصوتية في
الملاعب الخضراء فاستجبت لهذا النداء الذي غيرت بعده مسار حياتي من التفكير في كرة
القدم إلي الغناء في ظل وجود عمالقة أمثال عثمان حسين ومحمد وردي والكابلي وصلاح
بن البادية آخرين.
ارتبط أسمك ارتباطاً وثيقا بأغنية ( قام أتعزز الليمون
) ما سر الأغنية ومن الشاعر الذي صاغ كلماتها؟ قال : عندما عرضت عليّ هذه الأغنية
توقعت لها هذا الخلود في ذاكرة المتلقي فأنت مجرد ما تستمع لها تجد نفسك مشدوداً
نحوها
فمنذ أن استلمتها من الشاعر أزهري عبدالرحمن أبوشام من
أبناء طابت الشيخ عبد المحمود بولاية الجزيرة الخضراء إلا ووجدت اللحن داخلها
لبساطة الكلمات المعبرة في مضامينها لذلك أرجو شاكراً أخي وصديقي سراج النعيم أن
تنشر كلماتها فأنا اعتز وافتخر بها فهي تقول في جزء منها :
قام أتعزز الليمون
عشان بالغنا في ريدو
بدور أشكيهو للقمرة
وأشوفك من أجاويدو
نجض قبال مواعيدو
وهاري حشاي أنا الليمون
وهدهد لي أغاريدو
ورحنا نصيد ودا الليمون
عشان ما نحن بنريدو
وماذا لديك من الأغاني الشهيرة بعد أغنية ( قام اتعزز
الليمون ).. ولمن من الشعراء الآخرين تغنيت بنصوصهم؟ قال : بعد تلك الأغنية عملت
جاهدا لإنتاج أغنية تحظي بنفس القبول والشهرة التي حظيت بها أغنية ( قام أتعزز
الليمون ) فكانت أغنية (ﺯﺍﺩ ﺍﻟﺴﻔﺮ، ساعة رحيل، كلمة
وداعك، مالك تاني ومالنا، لمن بالغ وكبر وصلي) .. ومن الشعراء الذين تعاملت معهم
تاج السر عباس وعزمي احمد خليل وأزهري ابوشام وعثمان خالد وعوض الله ابو تي وآخرون
لا يسع المجال لذكرهم جميعا.
بما أنك ذكرت من بين شعرائك الشاعر تاج السر عباس ما
هي حقيقة أنك غنيت أغنية ( كتير بتناسي ايديا ) قبل الفنان الراحل خوجلي عثمان؟
قال : نعم وضع الشاعر تاج السر عباس نص (ﻛﺘﻴﺮ ﺑﺘﻨﺎﺳي ﺃﻳﺪﻳﺎ) علي منضدتي
فقمت بوضع الألحان له والتغني به وحينما علمت أن الفنان الراحل خوجلي عثمان قد
غناها عبر أثير الإذاعة السودانية لم ارددها مرة اخري احتراماً لرغبة الشاعر وحبا
في الرائع خوجلي عثمان ورغماً عن أن الواقعة مرت عليها سنين إلا أنني مازلت أحفظ
النص الشعري الذي يقول الشاعر في مطلعه :
ﻛﺘﻴﺮ ﺑﺘﻨﺎﺳي ﺍﻳﺪﻳﺎ
ﻭﺍﺳﻴﺒﺎ ﻋﻨﻴة ﻓﻮﻕ ﺃﻳﺪﻚ
ﻭﺍﺩﻱ ﻋﻴﻮﻧﻚ ﺃﺣﻠﻰ ﻛﻼﻡ
ﺗﻌﻴﺪ ﺑﻴﻬﻮ ﻳﻮﻡ ﻋﻴﺪﻙ
ﻭﻛﻞ ﺍﻟﻘﺼﺔ ﻟﻮ ﻋﺎﺭﻓة
ﺃﻧﺎ ﺍﻟﺰﻭﻝ ﺍﻟﺼﺤﻲ ﺑﺮﻳﺪﻙ.
الشاعر عثمان خالد
وماذا غنيت من كلمات الشاعر الكبير عثمان خالد؟ قال : من
الأغاني التي شكلت حيزا من تجربتي الغنائية أغنيتي التي حملت عنوان ( لمن بالغ
وكبر وصلي ) التي كتب كلماتها الشاعر الكبير عثمان خالد وهي من الأغاني التي قوبلت
بنقد لاذع جدا لفت إليها الأنظار.
متى هاجر محمد سلام إلي الجماهيرية الليبية؟
قال : شددت الرحال إلي هناك في نهائيات سبعينات القرن
الماضي وظللت فيها ما يربو عن الثلاثين عاما متصلة.
ماذا أضافت لك الغربة وماذا خصمت منك؟
قال : كما أسلفت ففترة الغربة بالجماهيرية كانت خصما علي
مسيرتي الفنية ولكن تلك الغربة أملتها عليّ ظروف الحياة آنذاك الوقت حيث لم يكن
الفن يجلب المال كما اليوم وبالتالي كان لغيابي الأثر السالب عند عودتي لأرض
الوطن.. فأنا ظللت بعيداً عن الجماهير التي التفت حولي قبل السفر ولكن أأمل أن
أستعيد ولو جزءا منهم بطرح الأغاني القديمة في قالب جديد وإنتاج أعمال غنائية
تتوافق مع التطور الذي شهدته الحركة الفنية منذ أن غادرتها وحتى عودتي إليها.
خوض تجربة الغناء
{ ما هي الدلالات التي قادتك إلي أن تلحن وتغني أغنية (
قام أتعزز الليمون ) بصورة أدهشت الجميع حتى أنها خلدت في المخيلات هل لك أن
تحدثنا عن النص؟
قال : بعد أن
ودعت لعب كرة القدم نهائيا وبدأت أخوض تجربة الغناء بحثت عن نصوص غنائية خفيفة
تتماشي مع ما هو مطروح في الحراك الفني فكان من بين النصوص التي وضعت لها ألحاناً
نص أغنية ( قام أتعزز الليمون ) الذي وجد قبولا منقطع النظير حقق لها الانتشار
الكبير الذي جعل الشعب السوداني يرددها معي كما أنها فرضت علي الكثير من الفنانين
التغني بها عبر الوسائط الإعلامية والمسارح المختلفة.. وهي كان لها الفضل بعد الله
سبحانه في الشهرة والنجومية التي حققتها فأصبحت لي جماهيرية جارفة تحرص علي دخول
حفلاتي لما أمتاز به النص من فكرة تمت صياغة مفرداته التي أجاد فيها الشاعر أزهري
من النظم خاصة فهو عمل جاهدا للتصالح مع الحب الذي عاشه رغما عن النفور الذي عمدت
إليه المحبوبة بطريقة مختلفة عن الأشعار المتداولة وقتئذ.