تلقيت دعوة كريمة للمشاركة بالحديث في الاحتفال المقام بمنتدى راشد دياب بمناسبة مرور عام على رحيل شيخ النقاد ميرغني البكري، وتمت دعوتي لمعرفتي وتقديري وحبي له ، وكعادتي اعتذرت عن الحديث، فماذا كنت قائلاً عن ميرغني البكري، فهو كالبحر الذي لو طلب من أحدنا أن يصفه فلا يملك إلا أن يقول: ـ
إنه البحر ...
إنه البحر ...
إنه البحر ...
وفي الليلة المشهودة ذهبت ، واتخذت مكاناً إلى جوار صديقي الإنسان الجميل راشد دياب، وكان برفقتي الشاعر عبد الله البشير، وأنا عندما أصادف راشد دياب لا أتجاوزه، إذ أنني آنس إليه وأتبادل معه الحديث هامساً، ولو سمعه البعض لرمونا بالفسوق، وهو عين المباح، إلا أنه وفي تلك الليلة صمتنا حتى عن المباح، إذ أن روح شيخ النقاد ميرغني البكري تحيط بنا من كل حدب وصوب، وذكرى رحيله تدمي أكبادنا .
فيما تحدث العلامة على شمو وهلاوي وشكر الله ود. عبد القادر سالم وأخرين، وتخللهم بالحديث والتقديم عوض أحمداني، لقد أبانوا من الشمائل مالو ظفر الرجل بواحدة منها لصار بها ذو شأن عظيم، فما بالك إذ اجتمعت فيه ودانت له0
إن البكري كان أشبه بالطَلْ في صفائه ونفعه حتى إن لم يكن تأثيره يُرى بالنسبة للكثيرين أشبه بطائر الفينيق الذي خلع عليه الناس من الأوصاف حتى صار أشبه بالخيال، إذ كان يرعى النجوم في سماها، ويرعى النجوم في أرضها، ومن نجوم السماء عبأ نفسه بالجمال والتألق .
وإما نجوم الأرض فإذا كان البعض يقف لناشئة المبدعين بالمرصاد والتبخيس، فإن ديدن ميرغني البكري أن يكلأهم بغامر رعايته، ويسخر قلمه للزود عنهم حتى يكبروا ويملأون الآفاق بعطائهم الدفاق ، وكان يغشى جل المنتديات الثقافية والفنية وكأن له أشباه ونظائر، إذ كيف كان يقوى على ذلك حتى بعد أن وهن منه العظم، وأشتعل الرأس شيباً، وإني حل تجده يملأ المكان حضوراً طاغياً بجمسه المنحول وعمامته المعهودة وصوته المعتق، وإذا رأك لا ينتظرك تأتيه، بل يخف إليك باسطاً ذراعية ، وقد ظل على هذا الحال إلى آخر يوم في حياته، إذ لم يحجبه الإعياء أو يقعد به الداء، فمات واقفاً كما الأشجار، وهو يشهد منشطاً بنادي الربيع، وكنت ضمن أهله وعشيرته ومحبيه وتلاميذه الذين هرعوا منتصف الليل لتشييعه إلى مثواه الأخير .
وفي اليوم التالي جلس إليّ صلاح الحردلو في سرادق العزاء وأنبأني أن المرحوم آخر ما كتب في مذكراته أربع صفحات عني فأيقظ في دواخلي كل لواعج الامتنان لهذا الرجل الإنسان، وهو أول من أطلق علي لقب (الجنرال)، وكنت يومها في تلفزيون السودان علماً بأنه ليس لي من بلاء الجنرالات، وعلو كعبهم سوى هذا اللقب، رحم الله البكري وأبدله خيراً مما ترك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق