الأربعاء، 29 يناير 2020

الدار تقتحم عالم سكان الشوارع (الشماسة) وتخرج بالكثير المثير أحمد : (صبيناها) في الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة.. شاركنا في مظاهرات ديسمبر للإطاحة بالرئيس المخلوع عمر البشير





كلما تحركت من المنزل إلى العمل أشغل نفسي بتصفح هاتفي إلى أن أصل إلى وجهتي، إلا إنني قررت أمس أن أجري تحقيقاً استقصائياً حول سكان الشوارع الذين نطلق عليهم مجازاً (الشماسة)، وفكرة التحقيق نبعت من الانتظار لساعات طوال للمركبات العامة، وأثناء ما كنت أفعل لمحت طفلة في الموقف تراقب تحركاتي، فما كان مني إلا وتوجست منها، والتوجس صادر من اعتقادي بأنها ربما تكون مدفوعة لإلهائي من شخص آخر يرمي لخطف هاتفي السيار، الأمر الذي حدا بي التركيز معها بكل ما أملك من حواس، وعليه ظللت أنظر إليها بحذر شديد، وعندما اكتشفت بإحساسي أنها ليست كما تصورت قلت في قرارة ذاتي لماذا هذا التوجس ثم تجرأت وسألتها ما السبب الذي قادك إلى هذا المكان؟
قالت : الظروف الاقتصادية المحيطة بأسرتي ظروفاً قاسية جداً، ولا تحتمل أن أكون عبئاً ثقيلاً عليهم، لذا أثرت أن أكون من سكان الشوارع، وأساعدهم بما أتحصل عليه من مال من عملي الهامشي الذي يوفر لي بعض الأحيان مبالغاً مالية أسدد بها ديونهم لدى صاحب الدكان، ومن وضع أسرتي الاقتصادي المذري شاركت من أجلهم في المواكب التحررية الداعية إلى إسقاط نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، ومن ثم انضممت لمن كانوا (صابنها) في ساحة الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة بالخرطوم، وهنالك وجدت تعاملاً إنسانياً راقياً، وكان بعض الشباب يجمع لي مبالغاً مالية أذهب بها مباشرة إلى صحاب الدكان الذي تقترض منه أسرتي ديوناً وأسددها لهم من أجل أن يعيشوا حياة كريمة، دون أن يمدوا أيدهم للناس أعطوهم أو منعوهم.
ماذا تعرفين عن السياسة؟
لا أعرف عنها شيئاً، ولا أريد أن أعرف، ولكن كل ما أعرف هو أن نظام الرئيس المخلوع عمر البشير ظلم الناس لذلك تمت الإطاحة به.
وأثناء إدارتي للحوار معها كان هنالك طفلاً يراقب الحوار الدائر بيني وبينها، وكأنه يرغب في أجرائي معه حواراً مماثلاً، وكان أن سألته ما هو اسمك؟
أحمد.
لماذا لم تكمل اسمك؟
قال : أعرف إلى ماذا ترمي من سؤالك، هل تظن إنني ليس لدى أسرة، بالعكس والدي ووالدتي وأشقائي موجودين، وكل من تشاهدهم في هذا المكان لديهم أسر إلا أن الظروف الاقتصادية القاهرة لعبت دوراً كبيراً في تركهم للأجواء الأسرية والاحتماء بالشارع، الذي قطعاً لا يرحم صغيراً أو كبيراً.
كم تبلغ من العمر؟
(١٥) عاماً.
يبدو أن عمرك أقل من ذلك بكثير؟
ما ذكرته لك من عمر حقيقي وذلك وفقاً لشهادة ميلادي.
ما هي قبيلتك، ومن أين أنت؟
لا أحب السؤال عن القبائل، ويكفي إنني سودانياً، ولا أحب أيضاً سؤال من أي الولايات أنت، فأنا من كل بقاع السودان شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً.
هل والدك ووالدتك على قيد الحياة؟
نعم وأدعو الله أن يمد لهما في أعمارهما، إلا أنهما انفصلا عن بعضهما البعض، وذهب كل منهما في اتجاه، لذا لم يكن أمامي خياراً سوي أن أنضم إلى أخوتي في هذا المكان، والذي أصبح بمرور الزمن عالمي البديل للأسرة التي فقدتها بسبب الطلاق.
لماذا لا تعيش مع والدك أو والدتك؟
بعد الانفصال تزوج كل منهما، وأصبح لديهما أسرتين منفصلتين، وبالتالي لا مكان لي بينهما، ومنذ أن ابتعدت عنهما مرت بي الأيام، الشهور والسنين سريعاً، وخلال تلك الفترة الماضية لم أرهما حتى إنني كدت أنسي ملامح وجهيهما.
كيف تعيش في هذا المكان الذي ليس فيه ما توفره لك الأسرة؟
لا يمكن أن تتخيل السعادة التي أعيش فيها مع أصدقائي الذين أصبحوا الأسرة البديلة، إذ إنني وجدت في هذا العالم التكافل، التكاتف والتعاضد أكثر من تلك الأسرة التي ذهبت إليها.
هل لديك عمل؟
أعمل في نظافة السيارات، وأتقاضي مقابل ذلك أجراً من سائقي تلك المركبات، وما أن انتهي أعود مباشرة لهذا المكان.
ما سبب الجرح الموجود على يدك؟ تشاجرت مع أحد أصدقائي بسبب (سجارة)، وتطور الأمر من نقاش للاشتباك بالأيدي، وكان أن تقلبت عليه، فما كان منه إلا وجرحني بموس وجدها ملقاة على الأرض، فأمسكها وجرحني بها على يدي، ثم أسعفني إلى المستشفى.
هل تلقيت تحصيلاً أكاديمياً؟
درست حتى الصف الثالث الابتدائي، ونسبة إلى ظروف والدي طلعت من المدرسة، وعملت معه في عربة (كارو)، إلا أن الخلافات بدأت تدب بين والدي ووالدتي إلى أن انفصلا عن بعضهما البعض، مما جعل كل منهما مهتما بحياته الخاصة، وبالتالي أهملاني، وأصبحت بلا دليل أو مرشد، مما قادني الاتجاه للعمل منفصلاً، ومع مرور الأيام أصبحت إنساناً (مشرداً).
وانتقلت بالحوار إلى سيدة تحمل طفلاً على كتفها ويقف بجوارها آخر؟
ما هو اسمك؟
عائشة.
ما الذي أتي بك إلى هذا العالم؟
قالت : أكثر ما يحز في نفسياتي أن الاعتقاد السائد في أذهان عامة الناس أننا ليس لدينا أسراً، وهذا المفهوم غير صحيح، والظروف الاقتصادية القاهرة وحدها التي شردتنا عن أسرنا، ورغماً عن ذلك نتواصل معهم في كثير من الأحيان، ونتابع كل ما يجري من أحداث حولنا في أوقات الفراغ، إلا أننا لا نلم بكل شيء.
أين والد أطفالك؟
موجود معي في هذا العالم الذي يجد الاهتمام من وسائل الإعلام دون البحث عن حلول جذرية تعيدنا إلى المجتمع، وأتمنى أن أجد منزلاً أستقر فيه مع أبنائي وعملاً أخرج به وأسرتي الصغيرة إلى بر الأمان.
كيف تصرفون على أنفسكم الآن؟
هنالك جهات وأشخاص خيرين يوزعون لنا الأزياء، المأكل والمشرب، ونحن نتوكل على الله في حياتنا رغماً عن عدم امتلاكنا ما ننفقه على أنفسنا في هذه اللحظة ناهيك عن الغد.
فيما انتقلت بالحوار إلى (مشرداً) آخراً سألته عن اسمه؟ قال : محمد أحمد.
هل في الإمكان أن التقط معك صورة؟
لا مانع لدي، ولكن إذا كان لنشرها في الميديا الحديثة أو الصحف، أرجو منك أن تغطيها.
ما الذي تفعله بما تتحصل عليه من مال، وكم يوم يبقي بطرفك؟
كل مبلغ اجنيه من عملي لا يكفي لقضاء يومي، فالسوق أصبح مرتفعاً بصورة جنونية، وبالتالي أصرفه على المشرب والمأكل، وما بين الفينة والأخرى أشتري بعضاً من السجائر، وأوفر منه جزءاً لليوم الذي يليه.
هل سبق لك أن سرقت ؟
سرقت مرة واحدة تجار فاكهة، وإتباعي هذا السلوك معه نابعاً من أنني كنت جائعاً، ورغماً عن ذلك لم أكن أنوي أن أفعل إلا أنه رفض أن يسد رمق جوعي في عز هذا الشتاء القارص، لذا اضطررت إلى سرقته (تفاحة)، وفيما بعد سددت له ثمنها.
لاحظت أن معظم سكان الشوارع يتسمون بالبراءة التي تنم عن أصول طيبة رغماً عن أنهم يواجهون مصير مجهول، لذا شعرت بحزن عميق من واقع أن الظروف الاقتصادية بالغة التعقيد جعلتهم يتخذون من الشارع مأواً لهم، فلولا الفقر لما كان هؤلاء الأطفال يعيشون في المجاري والشوارع، فلماذا يتعامل معهم البعض بقسوة، ومن هذا المدخل أبعث برسالة إلى المجتمع مفادها أن هؤلاء الأطفال يمكن الاستفادة منهم في المستقبل، وأدلل بما فعله الزعيم النازي (هتلر)، والذي أختطف أكثر من مائتي ألف طفل من النمسا، ليكونوا ثروة بشرية تعتمد عليها ألمانيا فيما بعد، وبالفعل كانوا القوة الضاربة في الحرب العالمية الثانية، وأنا لا أقصد هنا تعليم الأطفال التطرف أو التعصب ! ولكن ما أقصده أن الأطفال وهم في سن البراءة، يستطيع الكبار تشكيل شخصياتهم، فمن الممكن أن يكونوا جنوداً بواسل، أو علماء أو عمال، فمن الممكن أن يكونوا أداة لانطلاق الدولة نحو الحضارة والتقدم.

ليست هناك تعليقات:

azsuragalnim19@gmail.com

*الدكتور أسامة عطا جبارة يشرح الإقتصاد السوداني في ظل الحرب*

..........  *تواصل شبكة (أوتار الأصيل) الإخبارية، وصحيفة العريشة الرقمية نشر الحوار الهام مع الخبير في الإقتصاد العالمي الدكتور أسامة عطا جب...