الفنانون يبكون رحيل رمانة الصحافة وهذا سر علاقتها بابن البادية
..........
هذا ما كتبته على شاهد قبرها : شكراً يا من علمتني معني الحياة
..........
ها أنا أكتب بحبر القلم، بل أكتب بدماء القلوب، ها أنا أتمزق من الداخل، فعذراً يا من كنتِ كل الأمل والرجاء، أعلم إنني تأخرت كثيراً، فلم أكن أدري أن القدر يخبئ لي كل هذا الألم، الحزن، الجراح التي لن تندمل بمرور الأيام، الشهور والسنين، ها هي تلك الاحاسيس تتدفق عبر السطور، وتقودني إلى ما لم أكن أأمل فيه، مما يجعلني أبحث عن ملاذ فلا أجد سوي أن ألوذ للصمت، نعم الصمت، فالزمان والمكان لم يعدا كما كانا، والأشياء لم تعد تشبهنا، وأصبحت تشعرنا بأن ما نسطره من كلمات صادقات لا يصل إلى من نحب، وأن أحلامنا ما عادت تتسع لما نصبوا إليه، لماذا رحلتِ بصمت وهدوء، وتركتِ وراءك مسافات من الألم، الحزن، والجراح.
من أصعب الأشياء على الإنسان أن يعبر عما يجيش في دواخله الممزقة أصلاً بالألم، الحزن والجراح العميقة التي تتقاذفها الهواجس والأفكار يمني ويساراً، فكم كان رحيلك مؤلماً، نعم مؤلماً حد النخاع والعظم، وإن كان الرحيل عندي لا يعدو سوي رحيلاً جسدياً، لأنك ستبقين خالدة بذات الألق ونقاء السريرة، الإنسانية، الخلق الرفيع، الأدب الجم والكرم الفياض، هكذا كنتِ تحملين في معيتك كل صفات النبل، نعم النبل الذي لم تؤثر فيه الأجواء المتقلبة أو الظروف القاسية، هكذا كنتِ حتى تهبى الآخرين الأمل رغماً عن تقلبات الحياة المريرة، لذا كان فراقك هو الأشد قسوةً وإيلاماً، لقد رحلتِ بهدوئك، رحلتِ دون أن تستأذني أحداً، نعم رحلتِ رحيلاً مراً، رحيلاً خلف وراءه حزناً دفيناً لا أظن أن تياره الجارف سيهدأ إن طال الزمن أو قصر.
لماذا رحلتِ باكراً في ذلك الصباح الذي أشرق حزيناً، إذ تلقيت الخبر الحزين الذي يؤكد أنك رحلتِ نحو طريق اللاعودة، نعم رحلتِ وتركتِ لنا الآهات وزفرات القلب، هكذا أجد نفسي مسكوناً بالألم، الحزن والجراح، فقد سبقك على هذا الرحيل المؤلم والدي الذي أحبك أكثر من بناته، ثم رحلت والدتي التي كانت تتحدث عنك بحب عميق، وأنتِ ترافقيها في حلها وترحالها، وها هو رحيلك يضاعف من ألمي، حزني وجراحي، إذ لم أكن أضع في حساباتي أنك سوف ترحلين عن الدنيا نهائياً، ولو كنت أعلم لكنت غيرت الكثير من الأخطاء التي ارتكبتها في حياتي، ها أنا أتذكر كل تفاصيلك المميزة ومشاعرك الإنسانية المتدفقة لخدمة الآخرين، ها أنا ألملم أحاسيسي التي تبعثرت بالقرب من قبور من احببت من هم بداخله أكثر من نفسي، وها أنا اتضرع لك بالدعاء يومياً، وسأكتب على شاهدك قبرك : (اللهم تقبل رجاء مجذوب قبولاً حسناً، فهي إنسانة تفيض بالإنسانية، اللهم أدخلها مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا).
كانت الراحلة رجاء مجذوب تمتاز بصفات عبادك الصالحين المتصالحين والمتسامحين مع أنفسهم والآخرين)، ومع هذا وذاك لم تكن تضطر للاستسلام لأي ظروف كانت تمر بها، ولم تكن تتنازل عن كبرئايها أو مبادئها في الحياة، لذا لم أكن أتصور نهائياً أنها سترحل بكل هذا الهدوء دون أن تعود لبث الأمل في أوساط من يعرفونها، هكذا جاءت إلى الدنيا ثم أبدعت فيها بتخليد اسمها بأحرف من نور، ومن ثم تركتنا للألم، للأحزان والجراح، إلا أن إنسانيتها ستزيدنا قوة ودافعاً للاستمرار فيما انتهجته من إنسانية على مدي سنوات حياتها.
ومنذ أن طرق أذني نبأ رحليها إلا وأصبح المكان ليس مكاناً، والإحساس ليس إحساساً، والأشياء من حولنا لم تعد كما كانت، فالرحيل أقوي من إرادة الإنسان الذي يمتلك طاقة محدودة على الاحتمال.
هاهي رجاء مجذوب التي أعرفها المعرفة الحقة تودع الدنيا بكل ما فيها من معاناة، وتتركنا نتبع مراسماً لا نحبذها لارتباطها بالوداع المؤلم، هاهي تودع الأسرة، الأهل، الأصدقاء والزملاء الذين عاشت معهم حياة قصيرة، ولكنها مليئة بالإبداع المقترن بالإنسانية، وخلال ذلك الإرتباط نشأت أحاسيس، ومشاعر إنسانية نبيلة، ثم كبرت تدريجياً وتعمقت في الدواخل يوماً تلو الآخر، لذلك عندما تلقي الشاعر الكبير اسحق الحلنقي، العم مهدي مضوي فاكهة اتحاد الفنانين، الموسيقى عبيد محمد أحمد، الجندي، البروفيسور الفاتح حسين، الدكتور عبدالقادر سالم، سيف الجامعة، محمود تاور وكل أعضاء إتحاد الفنانين، خبر رحيل الأستاذة الإنسانية المخلوقة رجاء مجذوب حزنوا حزناً عميقاً، لدرجة أنهم بكوها بالدمع السخين، فرحيلها كان مفاجئاً مثل رحيل الأب الروحي لها ولي الفنان الملك صلاح بن البادية، ورغماً عن أن ذلك الرحيل أصبح رحيلاً حتمياً، إلا أنه قائماً على فلسفة وداع من نحب، وعندما يصبح ذلك الرحيل حقيقة ماثلة أمامنا، فإننا نحاول جاهدين إنكاره ليس ضعفاً إلا إننا لا نستطيع احتمال ما كان تحتمله استاذتي (رجاء مجذوب على)، فهي كانت إنسانة مختلفة في كل تفاصيلها.
ومما ذهبت إليه، فإنني كنت أدرك تمام الادراك أن لكل منا رحيل إلا أن رحيل رجاء بت مجذوب تساقطت في إطاره الدمع مدراراً، وكيف لا وهي التي كانت تكرس كل وقتها لخدمة الإنسانية، والتي جعلت الناس جميعاً يبادلونها الحب بحب أعمق منه، وهي بدورها لم تخذل كل من طرق بابها الذي كان مفتوحاً على نافذة الإنسانية، هكذا جعلني رحيلك المفاجئ أن أدرك صعوبة التفكير في الرحيل، والذي تبدأ معه مرحلة جديدة، وهي مرحلة نحاول من خلالها النسيان، وإن كان النسيان في حد ذاته يطرح أسئلة حول البقاء في الحياة بدون أولئك الذين يجملونها بالإنسانية، فالحياة ما هي إلا لحظة قصيرة جداً نعيشها بحلوها ومرها، ثم نرحل عنها نهائياً، وهو رحيلاً خارج عن الإرادة، لذلك على كل إنسان أن يكون إنساناً صادقاً في إنسانيته، ومع نفسه ومع الله سبحانه وتعالي.
كلما تذكرت تلك اللحظات أجد نفسي اختزل أيام، شهور وسنوات من الذكريات الجميلة مع سيدتي رجاء مجذوب على التي كان لديها قدرة على إخفاء ما تحس به من ألم حتى في أحلك الأوقات، وذلك من أجل إسعاد الآخرين، فأعلم أنها كانت تتقطر ألماً، ورغماً عن ذلك الألم كانت تتمسك بإنسانيتها بصبر وحكمة، لذا حينما ترحل إنسانة في قامة رجاء مجذوب، فإنها بلا شك تترك فراغاً كبيراً، وتجعل الأجواء مفعمة بالألم، الحزن والجراح، ومهما تحاول اخفائها لن تستطيع، وستجد نفسك مرغماً ومحاصراً بقوة ما تفرض على الإنسان أن يكره وداع إي إنسان عزيز عليه، مما يجعل كل إنسان يمر بتلك اللحظات إنساناً ممزقاً من العذاب، وأي عذاب هو الذي تصاحبه ذكريات وتفاصيل مؤلمة، هكذا سنلحق بك عاجلاً أو آجلاً، نعم سنرحل بوداع أو بدون وداع، سنرحل إن طال الزمن أو قصر، سنرحل وفي القلب حسرة ومرارة.
إن رحيلك سيدتي رجاء مجذوب على أخفي بين طياته الكثير من الحزن الممزوج بالألم، وبالرغم من أننا نحاول التصدي له إلا أنه أقوى منا بكثير حيث نجد أنفسنا منقادين إلى سهر الليالي الذي نغيب في عوالمه بحثاً عن التخفيف، ولا نأبه بدموعنا عندما يرخي الليل ستوره، فإنه وأخيراً أصبح كل منا وحيداً يسامر أربعة جدران يرمي لها كل همومه وآلامه وأحزانه وجراحه ومراراته، ومع ذلك نحرض على ذهاب الإنسان للبحر ليرمي بكل ما يحس به من ألم في قاعه الذي لا قرار له، نعم أنه بحر الرحيل الذي تبحر فيه سفننا لترسو بنا في شواطىء بعيدة، شواطئ يتنازعها إحساس غريب وعجيب، إحساس يدفعها إلى غرس لحظة أمل ورجاء تجعل الإنسان يمعن في تفكير عميق فيما آل إليه، وفي لجة ذلك التفكير يجمع من حوله ظلال الأيام والشهور والسنوات المصحوبة بالألم، الحزن والجراح، هكذا يقلب الإنسان صفحات من حياته الماضية المكتوبة في دفاتر مليئة بالأوراق، وأي أوراق هي سوي أوراق عمر يتساقط ، وتتساقط أوراق الذكريات المتصلة بالماضي، خاصة وأن الحاضر يكشر عن أنيابه، فلا يدع لنا سوي المداومة على التفكير بحثاً عن أشياء ضائعة، هكذا عشنا الماضي الذي يرافق الحاضر في حله وترحاله إلا أننا كنا مشدودين نحو الماضي أكثر من الحاضر، وأي ماضي هو غير ماضي موحش بذكرياته.
هي كانت سيدتي وأستاذتي التي علمتني معني الحياة، لذا أجد نفسي مجبراً على الصمت الذي أعيش في ظله ألماً، حزناً وجراحاً لا أظن أنها ستندمل بمرور الأيام، فهي سلبت مني كل ما كنت أرجوه في هذه الحياة القاسية، إذ أنها لم تتح لي فرصة لتحقيق أحلام رسمناها على مدي سنوات وسنوات.
رغم إنني أؤمن بأنه لا مهرب مما هو مكتوب، إلا أن ألمي، حزني، وجراحي ترغمني على ترجمة احاسيسي ومشاعري، هكذا أحاول جاهداً الإفصاح عما يعتمل في دواخلي فتارة بالصمت العميق، وتارة آخري بالبكاء الذي لا استطيع أن أمنع منه نفسي، هكذا ينحصر تفكيري في اتجاه، هكذا أركن لما يعشش في رأسي، لأنني وكلما قلت إنني ودعت الألم، الحزن والجراح تبدأ تطل في حياتي مجدداً، وبصورة أعنف مما كنت أتخيل، هكذا اعتدت عليها، فهي في كثير من الأحيان تغرقني في الحزن لدرجة أنها تنسيني أن أتذوق طعماً للحياة، إذ لا تجدي الجدران التي شيدتها للحيلولة دون تدفق الاحاسيس والمشاعر المختلفة، والتي تفرض على واقعاً لم أألفه قبلاً، هكذا اتألم ألماً شديداً، وتغمرني الأحزان العميقة، وتتجدد الجراح الغائرة، والتي كنت أظن لوقت قريب إنني غادرتها إلا أن قلبي عاد إليها وحال بيني والأفراح، فإلى متي يظل قلبي يؤلمني، ويغمرني بالأحزان، ويعمق الجراح دون أن تندمل، فالذكريات تقف يومياً في ذات المكان، وتنظر إلى ألمي، حزني وجراحي بلا أمل أو رجاء للخروج من تلك الحالة بعد أن سقطت آخر ورقة للتفاؤل في الحياة، فلم أعد قادراً على العيش بعيداً عن الألم، الحزن والجراح، ولم أعد قادراً على مجابهتها رغماً عن كل المحفزات، لذا أحب أن أوكد لك إنني سأوفي بوعدي الذي قطعته في يوم من الأيام إلا وهو أن لا أموت إلا واقفاً كالأشجار.
ها أنا اترجم آمال وأشواق ضائعة في رحاب عمر يبدو أنه سيظل تائها دون أن يهدأ حسي، أو أن اخشي على نفسي الساكنة في لهفة الروح الشاردة، فالرياح العاتية تعصف بي، وتطفئ شمعتي المضيئة، ها أنا أجد نفسي غارقاً في سيل من الدموع بعد أن غابت عني الأفراح سنيناً عدداً، وأجد أن الأحاسيس والمشاعر الإنسانية كنت أعيشها وسط أناس موغلين في العمي، إذ أنهم لا يرون أن الموت مصيراً محتوماً، وأنه ليس الخسارة الكبري في الحياة، بل هو الخسارة الأكبر من ذلك بكثير، فالموت ليس موت الإنسان، إنما الموت هو موت الاحاسيس والمشاعر بالرغم من أننا ما زلنا على قيد الحياة.
عزيزتي كم كنت أحلم بأن تعيد لي الحياة يوماً ما ذاتي، إلا إنني فشلت فشلاً رغم محاولاتي المتكررة، لذا لا أجد عزاء سوي دموعاً تنهمر، دون أمل أو رجاء في مستقبل بعيداً عن الغرق في لجة بحور اليأس المظلمة، فالاقسي والاشد ألماً، حزناً وجراحاً جعلتني في حالة من التعاسة والشقاء، فأنا أحس بأنني في أمس الحاجة إلى البكاء الذي تتساقط في إطاره دموعي مدراراً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق