الخميس، 27 سبتمبر 2018

قصة بائعة شاي من محطة (أبو حمامة) بالخرطوم لدكتورة فرنسية

وتتوالي القصص المؤثرة حول الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر
.....................
الشرطة الايطالية تنقذ (40) شخصاً من المهاجرين غير الشرعيين
....................
وقف عندها : سراج النعيم
....................
استطاعت الأثيوبية (ميرون) تحقيق حلمها بعد أن أصبحت مواطنة فرنسية حيث حازت على درجة (الدكتوراة)، إذ أنها كانت بائعة مشروبات ساخنة بمحطة (أبوحمامة) بالخرطوم.
بدأت قصة الاثيوبية (ميرون) المثيرة بعد تخطيها كل الصعاب والعوائق التي كادت أن تؤدي بحياتها.
وفي السياق قال الدكتور يوسف العركي : الأنثى في بلاد النجاشي كائن من نور، لذا سأحدثكم عن (صديقتي) ميرون الحبشية، وحين أقول صديقتي لعله من باب التقرب والتودد إلي النجاح والإرادة والقوة كحال معظم البشر.
وتساءل من هي (ميرون)؟ ثم رد : هي فتاة في منتصف العشرينات تتميز بجمال هادئ وجسد يخاطب الرجال بصمت بأني بحر من أنوثة، تتحدث الإنجليزية بطلاقة وتجيد فنون التعامل برقي مع جميع فئات المجتمع، فهي خريجة كلية الإقتصاد بجامعة (بحردار)، جاءت إلي السودان في العام 2008م، وعانت ما عانت من أجل أن تتعايش مع المجتمع السوداني الذي عملت فيه خادمة في المنازل وقدمت (القهاوي) و(الشيشة) في المقاهي هكذا إلي أن أصبحت ست شاي في محطة (ابو حمامه) التي تأتي اليها في الصباح الباكر لتشعل نار (كانونها) لتبيع (القهوة) و(الشاي) لمن يرغب مقابل مبلغ زهيد.
وأضاف : في محطة (أبو حمامة) بالخرطوم بدأت علاقتي بالاثيوبية (ميرون) فوجدتها بحر من الثقافة والرقي والحكمة والدراية، فصرت من مرتادي مكانها، فلا يمر يوم إلا وأتناقش معها في السياسة والإقتصاد والإجتماع ومصاعب الحياة، وكانت تحكي عن رغبتها في الذهاب إلى أوروبا، وعن حلمها الحصول على درجتي (الماجستير) و(الدكتوراة) في (علوم الإقتصاد)، وكنت دائماً أشجعها وأدعو الله أن يحقق لها ما تصبو إليه، ومع هذا وذاك كنت على يقين تام بأن أحلامها (أحلام ظلوووووط)، المهم أنه وفي العام 2011م قررت (ميرون) أن تشد الرحال شمالاً بإتجاه القارة العجوز وانقطعت أخبارها، فلا أحد يعلم ما آل إليه مصيرها بعد أن قررت الرحيل نحو غياهب المجهول، عموماً مرت السنوات تباعاً، ولم يعد في الذاكرة شيء فقد كانت (ميرون) طيفاً عابراً في الحياة أو لعلها قوس قزح يزول بزوال الإنعكاس، وفي غمرة تفكيري رن هاتفي السيار في ليلة من ليالي الشتاء في العام 2014م، وكنت حينئذ أغط في نوم عميق، وعندما استيقظت منه لم أكن أرغب في الرد إلا أن فضولي حين رؤيتي للمفتاح دفعني لأن أرد على الإتصال
ميرون : الو….
يوسف : مرحباً، منو معاي؟
الأثيوبية : أنا ميرون
يوسف : ميرون منو؟ وكان سؤالي هذا أغبى سؤال في حياتي، فلم أكن أتوقع اتصالها رغم انني كنت بالنسبة لها الأخ والصديق في أحلك أيام حياتها، المهم أنها ردت علي بنبرة أحسست فيها الإستياء (ميرون) بتاعت شاي (أبو هماما)، قفزت من هول المفاجأة صائحاً بأعلى صوتي ميرون ياني كونجو (وتعني جميلتي باللغة الأمهريه) وينك أنتي؟، لعلني رأيت الإبتسامة حينها عادت إليها من جديد، ماذا حل بـ(ميرون)، وكيف كانت رحلتها إلي اوروبا، ولماذا إختفت كل هذه السنوات؟ الإجابة تكمن في السطور التالية : خرجت (ميرون) عصراً من الخرطوم برفقة عدد من الفتيات الإثيوبيات الراغبات في الهجرة إلي أوروبا واستقلوا حافلة ركاب لنحو (10) ساعات توقفت بهن وطلب منهن الدليل أن ينزلوا ويحملوا المؤن فالطريق في الصحراء شاق ومرهق ومميت، هكذا سارت ورفيقاتها لمدة (14) يوماً متجهات مع دليلهن إلي ليبيا، وكان الإحباط يرافقها حين كانت تلتحف الأرض لتنام، فتستيقظ ولا تجد غير الصحراء والسراب على مد البصر، فكل شيء في الرحلة كان بمقدار (الشراب)، (الأكل)، (النوم)، (السير) و(الإختباء) أحياناً والركض أحياناً أخرى، وبعد عناء لا يضاهيه عناء دخلت ميرون الحدود الليبية واستقرت مع رفيقاتها في أحد معسكرات التهريب وتوقفن لمدة شهر لا يستطيعون في إطاره التحرك نسبة إلي الأوضاع الأمنية غير المستقرة في ذلك التوقيت وخلال هذا الشهر رأت الجحيم بأم عينيها هي ومن معها، فكل فعل آثم يوجد في معسكرات التهريب فهو (مباحاً) من حيث (الضرب)، (الإهانة) و(الأعتداء) الجسدي واللفظي حتى القتل يجوز في هذا المكان الذي تعرضت فيه ميرون للاعتداء مع زميلاتها أكثر من مرة، مما اضطرهن إلي أن يلجأن إلي حيلة ألا وهي أن يكن دوماً في مظهر (مذري) و(قبيح)، وأن يحرصن على عدم (الإغتسال) وأن تكون روائحهن دوماً نتنه لكي لا يثيروا غرائز الذئاب البشرية في المعسكر، وقد نجحن في ذلك،
وكانت (ميرون) تبكي كل ليلة، وتندب حظها العاثر، ونادمة على اتخاذها قرار الهجرة، لم تكن تتخيل أن تعيش في يوم ما جحيماً مثل هذا، ومرت الأيام بطيئة للغاية في (معسكر الموت) إلي أن فاجأهن المهربون يوماً للإستعداد بسرعة للمغادرة.
وأردف : (ميرون) الآن سعيدة تصلي للرب لبقائها على قيد الحياة، فيما توجهت سياراتها شمالاً بإتجاه البحر، وابتسمت وعاد إليها الأمل من جديد بعد أن أوشكت علي تحقق حلمها، ولم يعد هناك شيء يعيق من ذلك سوى البحر، وبعد يوم كامل في الطريق وصلت هي ومن معها إلي مكان بالقرب من العاصمة الليبية (طرابلس)، ومن هناك استقلن زورقاً ليلاً وتحرك بهن القائد سريعاً نحو القارة العجوز، وكانوا حوالي (40) رجلاً وإمرأة من جنسيات مختلفة جميعهم يتطوق إلي الحرية والحياة الكريمة، وعند بذوغ فجر اليوم التالي توقف قائد الزورق وقال لهم بأنه تجاوز أخطر نقاط الرحلة (مالطا) حيث أن خفر السواحل هناك يجوبون البحر بحثاً عن كل من يحاول الهرب بإتجاه أوروبا، ولم يعد أمامهم سوى (10) كيلومترات لكي يصلوا إلي شواطئ إيطاليا، وعليهم إرتداء سترات النجاة والسباحة شمالاً نحو الحلم، وأن لا يخشوا من شيء لأنه حتى من لا يجيد السباحه ستدفعه الأمواج نحو أوروبا، فما كان منهم إلا وإرتدوا سترات النجاة، وقفزوا جميعاً في عرض البحر، فيما عاد الزورق من حيث جاء تاركاً إياهم وحيدين، وقالت لي ميرون : (I hate salt from that day)، لقد كرهت (الملح) من ذلك اليوم لأنها شربت من ماء البحر ما يكفيها لألف سنه قادمة ، وأضافت : اتفقنا أن نمسك أيادينا سوية وأن نكون يداً واحدة، فإما أن نهلك جميعنا في البحر أو نرقص رقصة الحلم كلنا في شواطئ إيطاليا، وكانت الأمواج هادئة، وكان البحر يتقاذفهم يميناً ويساراً، ولكنهم كانوا يتجهون نحو الشمال رغم رهبة المشهد، والخوف لم يجد سبيلاً قط إلي قلبها، فلربما ما مرت به من أهوال في الرحلة جعلها أكثر شجاعة وتماسكاً، لم يمض كثيراً من الوقت حتى وجدت المجموعة نفسها محاطة بزوارق الشرطة الإيطالية، وهنا سالت الدموع غزيرة من عيني (ميرون)، وبكت بعلو صوتها وصرخت Thank you very much شكراً لكم، شكراً لكم، شكرا لكم، فقد عاد الأمل من جديد، وإنهمرت الدموع غزيرة من ميرون حينما شاهدت الشرطة الإيطالية تهب لنجدتهم، وأخذت تصرخ بأعلى صوتها شكراً جزيلاً شكراً لكم، وكان قلبها يخفق بشدة كلما تذكرت الأهوال التي عاشتها منذ أن فارقت الخرطوم، وقررت خوض غمار المجهول.
وتابع : صعد المهاجرون على زوارق النجاة الإيطالية، وانطلقت بهم مسرعة بإتجاه الشاطيء، ونزلت (ميرون)، وكان في استقبالهم عدد من الأطباء وسيارات الإسعاف، صعدت هي إلي الإسعاف، ومن ثم انطلقت إلي معسكرات (الإيواء) الأولية، ولم تصدق ما تراه فقد نسيت بأنه مازال هناك خير في البشريه، وكان الرقي في كل مكان، وكانت الإنسانية والشفقة والأدب ومكارم الأخلاق، وتمت إجراءات الكشف الطبي على عجل ثم ذهبوا برفقة المسعفين وامتلئت بطونهم الخاوية بما لذ وطاب، دخلت ميرون إلي الغرفة وخلدت في سبات عميق تحلم بالمستقبل في مدينة (نابولي) الإيطالية قرابة (6) أشهر، وكانت في أمس الحاجة لها، وسعت بكل ما أوتيت من قدرات بأن تؤهل نفسها سيكولوجياً، وأن تتخلص من التبعات النفسية لرحلة الموت إلي أوروبا، وحاولت أن تفهم طبيعة المجتمعات الأوروبية، فقد عملت خادمة في المنازل ونادلة في الحانات والمقاهي وباعت الورود في الطرقات وتسكعت في كازينوهات نابولي واستعادت روحها التي فقدتها في طريق هجرتها، وأصبحت على أتم الإستعداد للإنطلاق نحو طموحها دون توقف.
واستطرد : (ميرون) شغوفة بالإطلاع فهي مثقفة وتهوى الحضارات العتيقة، وتستمد قوتها من عبق الجمال والرومانسية، فقررت أن تتجه غرباً إلي مدينة (باريس) في أواخر العام 2011م، وإستقرت في فرنسا وشغفت بها حباً وخلال عامين تعلمت اللغة الفرنسية كتابة ونطقاً واجتازت إمتحان القدرات اللغوي IELTS بدرجه عاليه تتيح لها التقديم في الكثير من الجامعات الأوروبية، وكانت (ميرون) تعمل بجد لجمع المال اللازم للتسجيل في برامج الدراسات العليا في إحدى جامعات باريس العريقة.
واسترسل : في منتصف العام 2016م حصلت (ميرون) على نصف منحة لنيل درجة (الماجستير) في (علوم الإقتصاد) حيث أنها اجتهدت وكافحت وثابرت وانتصرت.

هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

قصة رائعة وملهمة ومليييئة بالايجابيه رغم قسوة الظروف ميرون الان دكتورة

azsuragalnim19@gmail.com

سراج النعيم يكتب : هذه هي الديمقراطية التى نريدها يا برهان*

  ......  من المعروف أن الديمقراطية تمثل القيم العليا في جميع أنحاء العالم، فضلاً عن أنها معترف بها دولياً، لأنها تحمل بين طياتها قيم مشتركة...