دائماً ما يقلقني سؤالاً يطرحه البعض تعبيراً عما يجيش في دواخلهم من مرارات وألم، والسؤال يتمثل في : (ماذا قدم لهم الوطن ؟)، في حين أنهم يسقطون السؤال الهام جداً (ماذا قدموا هم للوطن؟)، ومن هذين السؤالين دعوني أجيب علي السؤال الأول الذي أصبح شائعاً بصورة فيها عدم الإنتماء والولاء للوطن، فلا شك أنه مسقط رأس كل منا أو التراب التي أنجبنا ونشأنا وترعرعنا فيه، خاصة وأن الإنسان ليس مخيراً في إختيار الموقع الجغرافي (الوطن).
كل منا يسأل نفسه ماذا قدم له الوطن؟، وبهذا السؤال نكون قد سألنا سؤال عديم الشفافية، لأنه وفي المقام الأول والأخير تسمية المواطن في حد ذاتها نابعة من (الوطن)، وبالتالي السؤال يخلق مساحات شاسعة بين الوطن والمواطن الذي ينظر له بمنظور الحيز الجغرافي لا أكثر رغماً عن أن تعريف الوطن أعمق من الأسئلة الساذجة التي ينتظر البعض إجابة عليها ممن لا يدري، هل الأرض هي الوطن؟، الإجابة كيف للرقعة الجغرافية الجمادية أن تجيب، مع التأكيد أنها تفيد ولا تضر بدليل أن هنالك من يشيدون علي أجزاء منها القصور والمباني المعمارية الفاخرة ويستخرجون من باطنه البترول والذهب والحديد هذا جزء يسير مما قدمه لنا الوطن من خيرات فماذا قدمنا له نحن؟؟.
وكان علي الذين يتسألون أن يكون مفهومهم للوطن أكبر بكثير وأعمق مما يتصورون، أي أن لا يكون مفهومهم السائد محصوراً في حيز ذلك التفكير الضيق الذي يدع نظرتهم إليه لا تتعدي المساحة الجغرافية، فالوطن يجب أن يكون الهوي والعشق الأول، فإذا نظرنا إليه نظرة إيجابية بدلاً عن تلك السالبة المرسومة بسؤال ينم عن جهل بالقيمة الوطنية والمساحة الجغرافية التي نعيش فيها للنماء والتعمير، فهو ليس ملكاً لأحد بل ملك للجميع بكل أطياف ألوانهم التي يفترض فيها أن تسعي إلي تنميته وتعميره بروح تملأها الوطنية، فالوطن يتألف من أعضاء فاعلين متساوون مع الآخرين في الحقوق والواجبات في حين أنه أيضاً له الحق علينا فلا كبير عليه مهما كانت مكانته.
إن الوطن بالمفهوم المتعارف عليه هو ﻋﺒﺎﺭﺓ ﻋﻦ ﻣﺴﺎﺣﺔ ﺍﻷﺭﺽ ﺃﻭ الرقعة الجغرافية التي ينتمي لها هذا أو ذاك من حيث الإرتباط التاريخي منذ الميلاد، وعليه يكون هو الهوية الوطنية لكل منا، فالوطن مساحة جغرافية تمثل مكان الإنجاب للأمهات والآباء والأجداد، وكلمة (وطن) في الكثير من قواميس اللغات الغربية تشير إلي الإنتماء مثلاً ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﺍﻷﻟﻤﺎﻧﻴﺔ : Heimatland)) ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﺍﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ : Homeland))، ﺃﻱ ﺃﺭﺽ ﺍﻟﺒﻴﺖ، ﺃﻭ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻴﺎﻗﺎﺕ ﺍﻟﻘﻮﻣﻴﺔ، ﻣﺜﻞ : (ﺃﺭﺽ ﺍﻷﻡ).
فيما نجد أن الوطن مصطلح من المصطلحات التي يتم استخدامها للإشارة للدور الإيجابي تجاهه الذي يتنادي به المواطن فخراً وإعزازاً، ويبدو ذلك جلياً في الأغاني الوطنية التي يتباهي الشعراء في نظمها كل علي طريقته وبلهجته أو لغته معبراً عما يجيش في دواخله عن موطنه مهد ثقافته وحضارته، ولا يكف أهل الثقافة والفن في التعريف بأوطانهم في الحروب أو في السلم فيدعون الشعوب إلي التفاعل مع القضايا التي تعتريهم ما بين الفينة والأخري، وإحترام ﺍﻟﻌﻠﻢ والنشيد الوطني ﻭﺇﺑﺪﺍﺀ ﻣﻈﺎﻫﺮ ﺍﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﻣﺜﻞ ﻭﺿﻊ ﻣﻠﺼﻖ ﻳﻤﺜﻞ ﺍﻟﻮﻃﻦ علي ﺍﻟﺴﻴﺎﺭﺓ ﺃﻭ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻨﺰﻝ ﺃﻭ ﻏﻴﺮﻫﻢ، ﺃﻭ ﺃﻱ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﻹﻋﻼﻥ ﺍﻟﻮﻻﺀ ﻟﻟﻮﻃﻦ
يعتبر الوطن لنا جميعاً بكل سحناتنا ولهجاتنا علي اختلافها ففينا العامل والمزارع والراعي والطالب والمعلم والدكتور والمهندس والضابط، وكل منا مسئول بحسب تأثيره في المجتمع، وبالتالي ﺍﻟﻮﻃﻦ ﻧﺤﻦ ﻣﻦ ﻳﺼﻨﻌﻪ ﻓﻠﻨﺼﻨﻊ وطناً خالياً من الصراعات.
آخر الأوتار
........................
من روايات العصور الماضية كان هنالك إنساناً يمتلك حصاناً وخروفاً، وفي يوم من الأيام توعك الحصان لدرجة أنه مرض مرضاً شديداً لا يستطيع معه أن يحرك ساكناً، ومع هذا وذاك كاد المرض الذي أصابه أن يؤدي بحياته، فما كان من صاحبه إلا وذهب سريعاً للطبيب البيطري وقام بإحضاره لكي يعالجه، وعندما رأي الطبيب الحصان في حالة صحية مذرية قال لصاحبه : إن لم يتحسن هذا الحصان بعد ثلاثة أيام، فإنه ليس أمامك بداً سوي أن تذبحه، فالتقط الخروف ذلك الحديث، وأخطر به الحصان، وفي اليوم الأخير من الموعد المحدد للذبح جاء الخروف ناحية الحصان وقال له : اليوم سيتم ذبحك، الأمر الذي حدا بالحصان أن يتحامل علي نفسه رغم الآلام وينهض بعد جهد جهيد، وعندما شاهده صاحبه واقفاً علي ارجله، فرح فرحاً لا تحده حدود بتحسن حالة الحصان، ثم قام علي إثر ذلك بذبح الخروف.