من المعروف أن من
يقطع صلة الرحم ملعون في كتاب الله سبحانه وتعالي لقوله : (فهل عسيتم إن توليتم أن
تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فاصمهم وأعمي أبصارهم)، وقال
علي بن الحسين لابنه : (ﻳﺎ ﺑﻨﻲ ﻻ ﺗﺼﺤﺒﻦ ﻗﺎﻃﻊ ﺭﺣﻢ ﻓﺈﻧﻲ ﻭﺟﺪﺗﻪ ﻣﻠﻌﻮﻧﺎً ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺏ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻲ
ﺛﻼﺛﺔ ﻣﻮﺍﻃﻦ).
ومن هنا أدلف
إلي قصة غرق أحد الشيوخ في بحر شيخه وصغيره البالغ من العمر (3) سنوات، بعد أن كان
يستمع له حول صلة الرحم وقال : (إن قصتي هي قصة من وقف على شرفة الموت، وشم رائحة النزاع،
وعانق مخالب الاحتضار، وكلما فكرت أن ارويها تهيأت لي صورة الموت، الذي ظللت أتسأل
بعده هل ما حدث معي صحيحاً، هل أنا على قيد الحياة؟، هكذا كانت الأسئلة تدور في ذهني،
حيث أن وقائعها بدأت معي بفكرة القيام برحلة بحرية، ونحن في عرض البحر كنت أستمتع بحديث
شيخي عن صلة الأرحام، وسرده السلس لبعض القصص المعبرة عن دروس وعبر، هكذا كنت أركز
معه إلي أن وجدنا أنفسنا في عمق البحر، وعندما توقفنا حدثت المفاجأة بأن تعطل محرك
المركب، بالإضافة إلى أن الخزان المجاورة للمحرك لا يعمل، والذي فشلت في إطاره كل محاولات
الإصلاح، وعلى هذا النحو بدأت أنفاسي تتصاعد مع قلق وخوف شديدين، ومع ذلك بدأت في أفراغ
الماء، إلا أن اندفاعها جعل المركب يفقد توازنه، ويغوص سريعاً في مياه البحر، ﻭﻓﻲ ﻏﻤﺮﺓ
ذلك الحدث يلقي إلي شيخي بطفله، وما أن التقفته، إلا وابتعلتنا الأمواج المتلاطمة،
التي بعدها غرقت مع الطفل الصغير، وكنت أحاول الصعود بصعوبة، ومع هذا وذاك كدت ﺃﻥ ﺃﻓﻘﺪ
الصغير، لو لا أن المولى عز وجل ألهمني بعنايته وتوفيقه، إلي أن تمكنت من العودة إلى
الحياة ممسكاً بالطفل، بينما أيقنت يقيناً قاطعاً بأن شيخي أصابه مكروه، ولكن بحمدالله
وجدته على قيد الحياة، وهو يمسك بجالون فارغ، فما كان مني إلا وأن ألقيت بطوق النجاة
لشيخي، الذي تمكن به من استعادة توازنه، ثم أخذت طوقاً آخراً، لنبدأ رحلة معاناة الوصول
إلى بر الأمان، وهكذا ظللنا إلى أن جاءت فرق الإنقاذ وأنقذتنا.
ومن هذه القصة
أعود إلي صلة الأرحام التي أضاعها الكثير من الناس بالابتعاد عن أقرب الأقربين، الذين
أصبحوا يتواصلون معهم برسائل (الواتساب) و (الماسنجر)، وهذا لأنهم ليسوا على سفر، في
حين أنهم يتفاخرون ويتباهون بغير هذه الحقيقة، وكأنهم لم يطلعوا على ما أمرنا به الدين
الإسلامي، والرسول صلي الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻋﻦ الرسول ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ
ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻗﺎﻝ : (ﻣﻦ ﻛﺎﻥ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﻭﺍﻟﻴﻮﻡ ﺍﻵﺧﺮ ﻓﻠﻴﺼﻞ ﺭﺣﻤﻪ)، وعن ﺃﻧﺲ ﺑﻦ ﻣﺎﻟﻚ ﺭﺿﻲ
ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻗﺎﻝ : (ﻣﻦ ﺃﺣﺐ ﺃﻥ ﻳﺒﺴﻂ ﻟﻪ ﻓﻲ ﺭﺯﻗﻪ ﻭﻳﻨﺴﺄ
ﻟﻪ ﻓﻲ ﺃﺛﺮﻩ ﻓﻠﻴﺼﻞ ﺭﺣﻤﻪ)، ويفسر العلماء الحديث الأخير بأن المراد ﺑﺰﻳﺎﺩﺓ ﺍﻟﻌﻤﺮ ﻫﻨﺎ
ﺇﻣﺎ ﺍﻟﺒﺮﻛﺔ ﻓﻲ ﻋﻤﺮ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻮﺍﺻﻞ ﺃﻭ ﻳﺮﺍﺩ ﺃﻥ ﺍﻟﺰﻳﺎﺩﺓ ﻋﻠﻰ ﺣﻘﻴﻘﺘﻬﺎ، ﻓﺎﻟﺬﻱ ﻳﺼﻞ ﺭﺣﻤﻪ ﻳﺰﻳﺪ
ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﻋﻤﺮﻩ، وﻗﺎﻝ ﺷﻴﺦ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﺍﺑﻦ ﺗﻴﻤﻴﺔ : (ﺍﻟﺮﺯﻕ ﻧﻮﻋﺎﻥ ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ ﻣﺎ ﻋﻠﻤﻪ ﺍﻟﻠﻪ، ﺃﻥ ﻳﺮﺯﻗﻪ
ﻓﻬﺬﺍ ﻻ ﻳﺘﻐﻴﺮ، ﻭﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﺎ ﻛﺘﺒﻪ ﻭﺃﻋﻠﻢ ﺑﻪ ﺍﻟﻤﻼﺋﻜﺔ، ﻓﻬﺬﺍ ﻳﺰﻳﺪ ﻭﻳﻨﻘﺺ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﻷﺳﺒﺎﺏ)، وهذا
يشير إلى أن الإنسان الذي يصل رحمه تجلب له صلة الله، وبالتالي تعتبر هذه الصلة واحدة
من الأسباب التي تقود الإنسان إلى دخول الجنة، فعن ﺃﺑﻲ ﺃﻳﻮﺏ ﺍﻷﻧﺼﺎﺭﻱ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺃﻥ
ﺭﺟﻼ ﻗﺎﻝ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺃﺧﺒﺮﻧﻲ ﺑﻌﻤﻞ ﻳﺪﺧﻠﻨﻲ ﺍﻟﺠﻨﺔ ﻓﻘﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ
: (ﺗﻌﺒﺪ ﺍﻟﻠﻪ ﻻ ﺗﺸﺮﻙ ﺑﻪ ﺷﻴﺌﺎً ﻭﺗﻘﻴﻢ ﺍﻟﺼﻼﺓ ﻭﺗﺆﺗﻲ ﺍﻟﺰﻛﺎﺓ ﻭﺗﺼﻞ ﺍﻟﺮﺣﻢ).
الحقيقة الماثلة
أن الناس في هذا الزمن أضاعوا صلة الرحم، بالابتعاد وحرمان الأقربين من التواصل الذي
هم أولى به من التواصل مع وسائط التقنية الحديثة، وذلك في ظل سهولة اقتناء الهواتف
الذكية، وعليه أسقطت صلة الرحم من الذاكرة، فتركتهم يركنون إلي عدم التواصل دون أن
يسعوا إلى تقويم سلوكهم.
ما أكثر الذين يقصرون
في الأقربين، وهذا الأمر يجعلني أخشى اندثار صلة الرحم، طالما أن الجفاء يحدث بين
أفراد الأسرة الواحدة، والذي هو في ازدياد مخيف، ويؤكد بشكل قاطع ما أمر ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻪ ﺃﻥ
ﻳﻮﺻﻞ، لقوله تعالي : (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويخشون ربهم ويخافون سوء
الحساب)، فالإنسان الذي يواصل أرحامه يشيع التوادد والتراحم والمحبة في من يصلهم،
ولكن هذا التواصل أصبح بعيد المنال بالرغم من أن المولي عز وجل أمرنا بمواصلة الأرحام،
ونهانا وحذرنا من القطيعة، وﻭﻋﺪ ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻗﻄﻴﻌﺔ ﺍﻷﺭﺣﺎﻡ بعدم ﺩﺧﻮﻝ ﺍﻟﺠﻨﺔ ﻣﻊ
ﺃﻭﻝ ﺍﻟﺪﺍﺧﻠﻴﻦ، وتعتبر ﺻﻠﺔ ﺍﻟﺮﺣﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻘﻮﻕ ﺍﻟﻌﺸﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻣﺮ ﺍﻟﻠﻪ عز وجل ﺑﻬﺎ ﺃﻥ ﺗﻮﺻﻞ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق