الاثنين، 15 فبراير 2016

أم الحسن وأحمد البلال

بقلم : سراج النعيم ........................ تعتبر (أم الحسن) الهوارية أشهر صاحبة قهوة وكافتيريا بطريق شريان الشمال الواقع شمال السودان.. حيث بدأت قصتي معها.. بأول لقاء صحفي .. ففي ذلك اليوم جئت علي غير العادة إلي مقر صحيفة ( الدار) بالخرطوم في الصباح الباكر لكتابة صفحتي ( أوتار الأصيل ).. وقبل أن أدلف إلي المكتب.. تفاجأت بسيدة كبيرة في السن تجلس هي وبعض الشبان علي الأرض بمدخل الصحيفة.. وكانوا يتفاكرون في ماذا؟.. لا أدري.. ولكن كانت تعتريني رغبة في التعرف علي تلك السيدة.. وبالرغم من تلك الرغبة.. إلا أنني كنت متخوفاً من أن يكون لهم موعداً مع أحد الزملاء.. باعتبار أن لديها إشكالية ما.. وتود طرحها للرأي العام عبر الصحيفة.. فتجاوزت رغبتي ودلفت إلي المكتب.. فكان منظرها يطل أمام عيني.. فقلت في غرارة نفسي لماذا لا اقتحم عليها جلستها مع أولئك الشبان وأسألها عن مشكلتها التي قادتها إلي المجىء للصحيفة ؟.. المهم أنني خرجت من المكتب وذهبت إليها مباشرة.. وسألتها ما هي مشكلتك؟ فلم ترد علي والتفتت إلي أحد الشبان الذين كانوا برفقتها متسائلة ماذا قال؟.. فرد علي ذلك الشاب قائلاً : هذه السيدة هي والدتي ( أم الحسن) أشهر صاحبة قهوة بطريق شريان الشمال.. ثم أردف : ووالدتي هذه لها قصص مثيرة في الصحراء الواقعة شمال السودان.. إلي جانب أن لها علاقة قوية بالرئيس الراحل جعفر محمد نميري الذي استجاب لها ابان ما كان حاكماً للسودان عندما طلبت منه حفر بئر للمنطقة التي تقطن فيها.. بالإضافة إلي أن الرئيس عمر البشير كسر لها البرتكول.. وسألها سؤالاً مباشراً.. ما الذي تريدين أن أقدمه لك؟.. فقالت : سيدي الرئيس أحتاج إلي عربة تعينني في استجلاب السكر والشاي والبن.. ومستلزمات القهوة والكافتيريا.. وكان أن تبرع لها بعربة.. ومن هنا تبدأ الأسباب التي جعلت أم الحسن والشبان يلجأون إلي الصحيفة.. وأثناء إدارتي للحوار مع أم الحسن أكتشفت أن الشبان هم أبنائها.. وأن حضورها من شمال السودان إلي الخرطوم بدوافع استلام العربة.. والتي كانت إلي ذلك الوقت الذي ادرت فيه الحوار معها لم تستلمها.. عموماً عندما فرغت من الحوار والتقطت لأم الحسن صوراً.. قررت أن اعود بالحوار إلي المنزل وكتابته.. ومن ثم تسليمه السكرتارية.. ومن ثم تحركت من مقر الصحيفة.. وما أن وصلت وسط الخرطوم.. إلا ورن هاتفي السيار.. وحينما نظرت في الشاشة.. وجدت المتصل الأستاذ أحمد البلال الطيب رئيس مجلس إدارة صحيفة ( الدار).. ورئيس تحرير صحيفة ( أخبار اليوم) فقال بالحرف الواحد : أين أنت الآن؟.. فقلت : وسط الخرطوم.. فقال : أركب أي عربة أجرة.. وعود إلي مقر الصحيفة.. وكان أن استجبت لرغبته.. وعندما وصلت مقر الصحيفة.. وجدت الأستاذ معاوية محمد علي سكرتير التحرير وقتها.. يسألني عن نص حوار الحاجة أم الحسن؟.. فقلت : لم أعيد صياغته حتي الآن.. فقال : الأستاذ أحمد البلال الطيب يرجو منك أن تكتب منه خبر .. فقلت إنه ابلغني بذلك.. وكان أن كتبت خبراً مطولاً من الحوار الذي اجريته مع أم الحسن.. فتفاجأت في صباح اليوم التالي بأن صوري وصور أم الحسن والمشيرين النميري والبشير تتصدر صدر الصفحة الأولى.. مصحوبة بالخطوط العريضة.. والخبر الذي كتبته.. وكان هذا الحوار هو التوثيق الوحيد الذي تم للسيدة أم الحسن. وأم الحسن التي التقيتها.. سيدة كبيرة في السن.. وتعاني من إشكالية بسيطة في السمع.. لذا كان أحد أبنائها حلقة الوصل في إدارة الحوار.. الذي بدأت تداعياته علي هذا النحو.. بأن طلبت منهم تشريفي في المكتب.. حتي اتمكن من التوثيق لأم الحسن.. فهي إنسانة جديرة بذلك.. وكان أن طلبت لها قهوة ولأبنائها وشخصي أكواب شاي من الحاجة الصايمة.. وبعد أن فرغنا من ارتشاف القهوة والشاي.. بدأت أم الحسن في رواية قصتها من الألف للياء.. وكيف كان لقاءها بالرئيسين الراحل جعفر محمد النميري..وعمر البشير.. فالأول تبرع لها بحفر بئر.. بينما تبرع الثاني بعربة.. والاخيرة هي السبب في إجراء الحوار.. إذ أن البشير أصدر توجيهاته بأن تمنح أم الحسن عربة دفع رباعي.. لحظة افتتاح طريق شريان الشمال.. ولكنها لم تستطع الحصول عليها.. ما استدعاها اللجوء إلي الصحيفة لإيصال صوتها إلي البشير.. أما قصتها مع الرئيس الراحل المشير النميري.. فبدأت عندما زار المنطقة.. وقهوتها.. ولم يجدها.. فسأل عنها فجاءه الرد بأن أم الحسن ذهبت في مشوار؟.. فقال : ألم تسمع بأنني سآتي إلي هنا؟.. فقالوا : أم الحسن لا تملك راديو.. فحزن النميري حزناً شديداً .. وأمر بأن تمنح أم الحسن راديو.. حتي تستطيع أن تستمع نشرة الأخبار.. وتعرف موعد زيارته الثانية للمنطقة.. وعندما أزفت ساعة زيارة النميري.. كانت أم الحسن في مقدمة مستقبلية.. فسألها عن حالتها الصحية؟.. فقالت : الحمدلله.. ثم أردف : ما الذي تحتاجين إليه؟.. فلم تطلب لنفسها شيئاً.. بل طلبت حفر بئر لمنطقتها.. هذه هي الحاجة أم الحسن صاحبة أشهر قهوة بطريق شريان الشمال.. الطريق الممتد من مدينة امدرمان إلي مدينة دنقلا. وقالت أم الحسن : لم أكن أفكر في نفسي بقدر ما كنت أفكر في تنمية المنطقة وتطوير القهوة إلي قهوة وكافتيريا حديثة.. وكنت استثمر أي فرصة لخدمة أهلي.. والمسافرين.. وظللت علي هذا النحو منذ أن كان هذا الطريق صحراء جرداء.. صحراء قاحلة.. ما يربو عن ستة عقود.. أو يزيد.. وخلال تلك العقود فكرت في إنشاء قهوة ( أم الحسن).. ثم طورتها فيما بعد.. إلي قهوة.. وكافتيريا حديثة.. ساهم معي في إنشائها الباشمهندس عطا المنان.. وواصل اسهاماته معي داعماً للمشروع بالسكر والشاي والكراسي والترابيز.. وكلما مر عبر طريق شريان الشمال لا يقصر معي.. المهم أن المنطقة بفضل الله.. وطريق شريان الشمال تمت تنميتها.. بعد أن كانت صحراء جراء.. صحراء قاحلة.. لا خضرة.. ولا مياه.. إنما كانت منطقة مليئة بالكثبان الرملية الثابت منها.. والمتحرك. وتضيف ( أم الحسن) : من المعلوم أن طريق شريان الشمال يمتد من مدينة امدرمان.. إلي مدينة دنقلا.. ويبلغ طوله ( 594) كيلو متر.. مروراً بمنطقة ( ابوضلوع) على بعد (68) كيلو متر.. شمال غرب أمدرمان.. ويمتد لمسافة ( 7) كيلو مترات. وتتذكر أم الحسن كيف كان هذا الطريق قبل أن يتم رصفه بالاسفلت؟.. فقالت: كان من الصعب علي الإنسان ان يسلك هذا الطريق الصحراوي.. فكل من جازف.. ودخله فقد.. ولم تفلح كل عمليات البحث عن المفقودين.. أو أن يستطيعوا الخروج من ذلك النفق.. ما يؤكد أن من يدخل تلك المنطقة مفقود.. مفقود.. والخارج منها مولود.. مولود.. إلا أنني خبرت الصحراء جيداً.. وذلك من كثرة ترحالي فيها من منطقة إلي أخري.. حتي أنني أصبحت خبيرة فيها من منطقتي.. وحتى منطقة ( التمتام) على بعد ( 200) كيلو متر.. فيما تجد أن منطقتي على بعد ( 50) كيلو متر. وعن كيف استطاعت التأقلم علي أجواء الصحراء المتقلبة؟.. قالت : نشأت وترعرعت فيها وكنت انتقل فيها منذ نعومة اظافري.. فقد كان والدي يصطحبني معه من منطقة صحراوية إلي اخري.. هكذا إلي أن أستقر بنا المقام في منطقتنا الصحراوية حالياً.. وخلال ذلك الترحال شهدت الصراع الحقيقي في صحراء بيوضة..الصحراء الممتدة من غرب النيل حتى الصحراء الكبرى.. وكان آنذاك السفر عبرها لا يتم إلا ليلاً.. فالسفر بالنهار من رابع المستحيلات.. نظراً إلي أن درجات الحرارة مرتفعة جداً.. وبالتالي تجد العربات صعوبة في أن تقطع الصحراء.. فمع إرتفاع درجات الحرارة.. ترتفع درجات حرارة ماكينات العربات السفرية.. مما يجعل سرعتها تنخفض.. ويضطر السائق إلي إيقاف العربة ما بين الفينة والاخري.. بغرض تبريد ( اللديتر).. والماكينة.. إلي جانب أن العربة تتعرض إلي الوحل وسط الكثبان المنتشرة علي امتداد الصحراء.. مما يجعل السائق ومساعده والركاب يعانون معاناة شديدة.. حتي يتجاوزون تلك العواقب.. ما يقودهم إلي الوقوف لفترات طويلة لأخذ قسط من الراحة.. فالسفر عبر الصحراء يستمر إلي عدد من الأيام. وتستمر أم الحسن في روايتها ومن أشهر سائقي العربات الذين كانوا يمرون بها قبل افتتاح طريق شريان الشمال.. السائق على محمد ساتى المنتمي إلي قبيلة الدناقلة.. الذي انتقل فيما بعد للعيش في الخرطوم حي ( السجانة).. بعد أن ترك العمل في هذا المجال.. وأصبح يتاجر في السيارات التي استطاع من خلالها أن يمتلك سيارة ( فورد) في العام 1934م.. وما أن إمتلك هذه السيارة.. إلا وفكر في السفر عبر مدينة امدرمان.. إلي مدينة دنقلا.. ومن خلال الصحراء.. وكان أن نفذ الفكرة التي راودته.. بعد أن حصل على بوصلة.. وكمية من الجير اﻷبيض لوضعه كعلامات.. تدله إلي طريق العودة من مدينة دنقلا إلي مدينة امدرمان.. كما أنه تحصل علي تصريح المرور من اﻹدارة اﻹنجليزية.. علي أن يتحمل بهذا التصريح كل العواقب التي تنتج عن هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر . وأضافت أم الحسن في حوارها : المهم أن السائق محمد ساتى شد الرحال متحدياً كل الصعاب.. مستفيداً من خبرته السابقة.. وكان أن حقق ما يصبو إليه.. حيث إستغرقت رحلته من مدينة امدرمان إلي منطقة الدبة ( 7 ) أيام. واردفت أم الحسن : ولم تتوقف مثل هذه الرحلات المحفوفة بالمخاطر وقتئذ إذ قام السائق سيد احمد عبد المجيد في العام 1947م برحلة عبر تلك الصحراء برفقة مالك العربة عمر عبد السلام الكوارتي.. وكان دليلهم في هذه الرحلة مجهولة المصير عربى يدعي ( أبو جبة).. وكانت العربة محملة بشاي مهرب.. ورافق ذلك الثلاثي في هذه الرحلة كل من ميرغنى عبدالمجيد ومساعد العربة عبد الله طلب.. وأستغرقت ( 5) أيام.. ثم عادوا منها إلى مدينة أمدرمان بعد (6) أيام.. وبهذه الرحلة تم فتح الطريق أمام عربات أخري كان ملاكها.. يتخوفون من المصير المجهول. بينما كانت الحاجة المرحومة أم الحسن أمراة مربوعة القامة بشرتها قمحية.. كبيرة في السن.. إلا أن فيها روح النشاط والقوة التي جعلت من شخصيتها.. شخصية قوية.. وذات هيبة تدع كل من يتعامل معها يحترمها.. ويقدرها.. خاصة الشخوص الذين مروا علي قهوتها أن كانوا يعملون في مجال السواقة.. أو ركاب.. وظلت علي هذا النحو إلي أن طورت قوتها إلي قهوة وكافتيريا.. وظلت تفرض من خلالها شخصيتها المميزة بسحنتها السودانية الأصيلة.. وكل من شاهدها عن قرب يلحظ قسمات وجهها المتجلي رغماً عن الظروف القاسية التي مرت بها طوال السنوات الماضية.. فالبيئة التي نشأت وترعرعت فيها.. بيئة تمتاز بالخشونة.. وبالرغم من أنها كانت كبيرة في سنها.. إلا أنها كانت ترتدي ثياباً تتناسب معها ومع البيئة المنتمية إليها. وفي هذا السياق قالت : العيش في الصحراء يفرض عليك ارتداء الوان محددة.. ليس من بينها اللون الأبيض.. لذا أختار الألوان المناسبة مع بيئتي. وعن كيفية بدايتها في بيع القهوة؟ قالت: كنت دائماً ما أفكر في الآخرين.. خاصة أولئك الذين يستقلون هذا الطريق الصحراوي.. ومن خلال تفكيري هذا طرأت لي فكرة إنشاء قهوة تلبي بعضاً من إحتياجات سائقي العربات والركاب.. وبدأت فعلياً في تنفيذ الفكرة براكوبة صنعتها بمعاونة أبنائي من المواد المحلية.. فيما كنت أشعل النار من الحطب.. حتي أن القهوة يميل لونها إلي السواد.. نسبة إلي أن النيران فيها لا تنطفئ.. وتظل مياه القهوة تتبخر متصاعدة إلي أعلي.. ويختلط ذلك البخار بالدخان الأسود الذي تنتجه نيران الحطب.. فيشكلان ضبابية مائلة إلي الليل في كل أرجاء الراكوبة.. وبالرغم من هذه الأجواء القاسية.. إلا أن أبنائي كانوا يجدون متعة في مساعدتي بتقديم القهوة والشاي إلي الزبائن. ومضت : كنت اطوف بين ركاب العربات من أجل أن البي طلباتهم.. فيدور بيني وبينهم حوار بلهجة سودانية ممزوجة بلغة عربية.. وكنت أحس أنهم يتعاملون معي برقي فابادلهم الإحساس.. بالإحساس.. دون أن أتوقف عن تلبية الطلبات. أين تقع قهوتك جغرافيا؟ قالت : على إمتداد صحراء ( بيوضة).. وكان السفر قبل افتتاح طريق شريان الشمال.. بالعربات ( اللواري).. ثم تطور إلي البصات.. ومع هذا التطور تطورت قهوتي إلي كافتيريا.. فاصبحت مشهورة.. ولكن شهرتي زادت عندما زارني الرئيس الراحل جعفر محمد النميري مرتين المرة الأولي لم يجدني واهداني راديو.. وفي المرة الثانية حفر لي بئراً.

ليست هناك تعليقات:

azsuragalnim19@gmail.com

*الدكتور أسامة عطا جبارة يشرح الإقتصاد السوداني في ظل الحرب*

..........  *تواصل شبكة (أوتار الأصيل) الإخبارية، وصحيفة العريشة الرقمية نشر الحوار الهام مع الخبير في الإقتصاد العالمي الدكتور أسامة عطا جب...