إن نظام الرئيس المخلوع عمر البشير كان على قناعة تامة بأن توقيعه على اتفاقية (نيفاشا) ستقود جنوب السودان للانفصال، وهذه الخطوة لم تكن الحل الجذري للصراع التاريخي، الذي أحدث زعزعة ليس على مستوي السودان، بل على مستوي القارة، مثله صراعات شهدتها أفريقيا لسنوات وسنوات مثل يوغندا، الكونغو، رواندا، نيجيريا، وتشاد وغيرها.
ومن أجل استمرار الحرب الدائرة في السودان انتهج الاستعمار خطة جديدة في العام 1989م مرتكزاً على سياسة إضعاف الوجود الشمالي في الجنوب واللغة العربية، والاستعاضة عنها باللغة الإنجليزية، وعملت على ايقاف الدعوة لاعتناق الديانة الإسلامية، وبالمقابل شجعت البعثات التنصيرية المختلفة، مما وضع الحكومات السودانية المتعاقبة أمام معضلة حقيقية من حيث مفاهيم ارساها الاحتلال البريطاني في ذهنية الجنوبيين، وعليه فإن النزاع ظل قائماً لدرجة أنه اشتهر إعلامياً باطول حروب القرن، ورغماً عن الانفصال إلا أنه مازال يترك آثاره السالبة في الشمال، والذي تضرر ضرراً بالغاً منه، ومن السياسة الاستعمارية الإنجليزية في البلاد، إذ أنها شرعت قوانين للمناطق المنغلقة في العام 1922م، وتم تنفيذها عملياً في جنوب السودان، وعلى خلفية ذلك تم أبعاد الموظفين السودانيين والمصريين من الجنوب، ومن ثم أصدرت القرارات العامة في جنوب السودان، مما نجم عنها إعادة التوتر في المنطقة مجدداً، وفي العام 1982م صدر قرار يقضي بإعادة تدوير القوات العسكرية في جنوب السودان، وهذا القرار قاد عدد من الضباط الجنوبيين للهروب من الخدمة في القوات النظامية، وصادف ذلك محاولة تصدير البترول خاماً، وفي بداية العام 1972م وقعت اتفاقية نصت على منح الحكم الذاتي لمحافظات الجنوب الثلاث تحت إشراف المجلس التنفيذي الأعلى، كما نصت على تشكيل جمعية تشريعية، بالإضافة إلى أنها شملت على ملاحق ونصوص تتعلق بإعادة توطين اللاجئين وترتيبات وقف إطلاق النار وتشكيل قوة عسكرية محلية من 12 ألف رجل نصفهم على الأقل من أبناء الإقليم.
وعندما تم اكتشاف النفط، والذي على خلفيته بدأ نزاع بين الحكومة والتمرد، فالمواقع البترولية أضحت بؤرة للصراع الذي نتج عنه عنفاً في العام 1965م، كما ظهرت في الساحة حركات سياسية تطالب بانفصال الجنوب عن الشمال، وهو الأمر الذي قاد إلى السلطة العسكرية في العام 1969م، وذلك من واقع أن الجنوب شهد (فوضى) احدثتها الحركة المتمردة (الأنيانيا)، والتي اتجه في إطارها النظام المايوي لإيجاد الحلول لهذه الأزمة بالتهدئة، وإعلان العفو عن السياسيين والمتمردين الجنوبيين.
وفي العام ١٩٨٣م تمردت حامية مدينة (يور) التابعة للقوات المسلحة، ثم صدر البيان الأول لحركة تحرير السودان بزعامة العقيد جون قرنق الذي أبعد عن حركته الدعوة لانفصال الجنوب عن الشمال، مؤكداً بالوحدة، واستطاع أن يستقطب المقاتلين خلال ثلاثة أشهر وتجنيد كتائب كاملة من المقاتلين، ومن ثم وجد الدعم من النظام الليبي برئاسة العقيد معمر القذافي، وبذلك الدعم استطاع أن يصيب حقول التنقيب عن النفط باضرار بالغة ،
بالرغم من الإختلاف القائم حول مدينة (أبيي) إلا أنها تشهد تعايشاً بين القبائل المختلفة، والذي تم بين (المسيرية ودينكا نقوك)، والذي وُقّع بين الناظر (علي الجلة) والسلطان (أروب)، وقد أثنى على ذلك التعايش المفتش الإنجليزي في تقريره الصادر في العام (1920م _ 1921م)، بالإضافة إلى مدير مديرية بحر الغزال من خلال خطابه الذي القاه بتاريخ 21/7/1927م وأوصى بأن يستمر دينكا نقوك في مجلس ريفي المسيرية نتيجة لعلاقتهم الجيدة، إلا أن أصل الإشكالية يعود إلى عصر الاحتلال البريطاني، إذ أن المستعمر اجري استفتاء لدينكا نقوك، ومنحهم حق البقاء في الشمال أو التبعية للجنوب إلا أنهم اختاروا أن يكونوا تابعين لمجلس ريفي المسيرية، ورغماً عما أشرت إليه إلا أن المستعمر الإنجليزي سعي سعياً حثيثاً لإقناع (كوال أروب) سلطان دينكا نقوك بالانضمام إلى جنوب السودان بدلاً من البقاء في الشمال إلا أن جميع المحاولات باءت بالفشل الذريع، وفي العام 1943م توفي السلطان (كوال أروب)، وخلفه نجله (دينق)، والذي حاول المفتش البريطاني إقناعه بالفكرة القديمة المتجددة أثناء الاستعداد لمؤتمر جوبا في العام 1943م، ورغماً عن الرفض إلا أن الإنجليز ظلوا يحاولون في هذا الإطار إلى أن تم إجراء استفتاءات في السنوات (1950م و1951م و1953م و1954م و1955م)، إلا أنها لم تنجح، وانتهت بخروج بالاستعمار في العام 1956م.
وعلى خلفية ذلك هدأت الأوضاع في جنوب البلاد، إلا أنها تجددت مع انقلاب نظام الرئيس المخلوع عمر البشير على شرعية الإمام الصادق المهدي في الثلاثين من يونيو في العام 1989م، وعليه ابرمت اتفاقيات حول مدينة (أبيي) في العام 1997م، كما أنها وضعت جدول أعمال في العام 2000م بغرض إيجاد الحلول للاشكالية كجزء من تنفيذ اتفاقية الخرطوم للسلام المؤكدة إن مدينة (أبيي) موطناً للمسيرية ودينكا نقوك، وهي ليست جزءاً من الجنوب، وأنها منطقة تعدد عرقي وثقافي، وهي واحدة من المناطق الأقل نمواً في البلاد، وأن لها إشكالية خاصة، ورغماً عن ذلك أخذت القضية بعداً آخراً عندما شرعت أمريكا في عمل تسوية للقضية عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، إذ أنها أثارت صراعاً حاداً بين النظام البائد والحركة الشعبية لتحرير السودان، مما نجم عن ذلك تدخل المبعوث الأميركي آنذاك وطرح رؤية للحل سُميت بالورقة الأميركية، وذلك في 2004م، وهدد الطرفين قائلاً: (إن الإدارة الأميركية تحمّل المسؤولية في حال انهيار المفاوضات لأي طرف يعوق مسيرة السلام)، مما أدي إلى أن تصبح الورقة الأميركية جزءاً من اتفاقية (نيفاشا)، وهي من الاتفاقيات الخطيرة التي تثبت مبدأ الاستفتاء، والذي حُدد له العام 2011م تزامناً مع استفتاء الجنوب ولم ترسم حدود جغرافية لمدينة (أبيي)، وترك الأمر برمته للجنة من الخبراء، ورئيس اللجنة سفير أميركي سابق بالسودان، ونائبه من جنوب أفريقيا وثلاثة أعضاء من دول الإيقاد، إلا أن اللجنة فشلت في مهمتها، وبالرغم من فشلها إلا أنها رسمتها وفق الحدود واعتبرته تغولاً على الأراضي الشمالية، فيما باركته الحركة الشعبية لتحرير السودان، مما أدي إلى حدوث اشتباكات في ديسمبرمن العام 2007م واشتدت في العام ٢٠٠٨م، وعلى خلفية ذلك اتفق نظام الرئيس المعزول عمر البشير ودولة الجنوب على إحالة ملف النزاع إلى هيئة تحكيم دولية بلاهاي في العام ٢٠٠٨م، مما أدي بنظام حكم المؤتمر الوطني الفشل لحل الإشكالية بطريقته التي تعد سابقة خطيرة تاريخياً نسبة إلى أنها جعلت السودان لقمة صائغة للانقسامات، والمطامع الخارجية، إذ أنها احتكمت إلى هيئة التحكيم الدولية، وهو الأمر الذي وضع القضية موضع شد وجذب بين طرفي الصراع، وبالتالي مضي نظام المعزول عمر البشير نحو الفشل الذي لم تجد في إطاره الحلول الجذرية للصراعات الدائرة في جنوب السودان، جبال النوبة، النيل الأزرق، أبيي، دارفور وشرق السودان، وهي بلاشك لا يمكن أن تنتهي من خلال اتفاقية (نيفاشا) الموقعة بين الحكومة والحركة الشعبية، أو غيرها من التفاهمات السياسية، وذلك يعود إلى أن ما يستند عليهم النظام السابق ما هم إلا جزء أصيل من الأزمات المتتالية في البلاد، وبالتالي لا يمكن أن يكون الداء هو الدواء الناجع، علماً بأن ما يجري من أحداث قائم على أسباب كثيرة منها تعميق الأنظمة المتعاقبة على حكم السودان، والمصالح المحلية، الإقليمية والدولية في مناطق الصراعات للإشكاليات المبنية على أن الحكومات تهمشهم، ووجدوا في هذا الجانب المساندة من الخارج الذي دعم أطراف الصراع، بالإضافة إلى السيطرة التامة على آليات التسوية.