ليس الكاتب وحده المطالب بالتصدي لمختلف المشاكل التي تعترى
مجتمعه إنسانياً، هذا إذا أفترضنا جدلاً أن مهمة الكاتب لا تخرج من هذا النطاق بحكم
أنه قادر علي معايشة هموم وقضايا الناس عموماً، ولكن إذا نظرنا إلي هذه المسألة بوجه
عام، فإن الجميع بصورة عامة مطالب بالإدراك والوعي بالمآسي الإنسانية المتقاعسه عنها
المؤسسات المعنية بحلها، والتي تطل علي بعض الأسر بشكل مفاجئ.
ومن هنا دعوني أقف وقفة إنسانية في أزمة كادت أن تعصف بهذه
الأسرة التي اضطرتها الظروف الإقتصادية القاهرة إلي أن تطرح عليّ قصتها المريرة التي
سيطرت علي حياتها بالكامل رغماً عن أن الأم المكلومة ظلت ومنذ أن لقي زوجها مصرعه في
حادث مروري تعمل جاهدة على تربية الأبناء الذين مازالوا في مراحل حساسة، علماً بأن
والدهم – عليه الرحمة – كان العائل الأوحد من خلال وظيفته.
بدأت تداعيات مأساة السيدة منذ أن وصلها نبأ مصرع زوجها في
حادث مروري قبل سنوات، ومنذ تلك اللحظة أعلنت فشلها في الإستمرارية، وتظل تبكى ليلاً
ونهاراً حتى أنها باتت تخشي أن تفقد دموعها، فهي ملاذها الذي تلوذ له كلما ضاقت بها
الظروف، فلا أمل في تجاوزها لهذا الفشل، ورغماً عما ذهبت إليه، إلا أنها فشلت في
أن ترسم مستقبل غير مظلم لأطفالها.
حلت عليّ هذه السيدة المعاناة بعد فقدها زوجها الذي كان
تنمو في ظله نمواً إنسانياً مختلفاً، مما حدا بها العمل جاهدة علي أن لا يتأثر أبنائها
بهذا الواقع الجديد الذي تعيش في إطاره تحت خط الصفر، خاصة وأن زوجها أنتقل إلي الرفيق
الأعلى متأثراً بالحادث الذي تعرض له أثناء قيادته سيارة اصطدمت بحافلة ركاب، مما
أدي إلي وفاته في الحال، وبعد مراسم العزاء سعت الزوجة للتأقلم علي الواقع الجديد،
إذ أنها بدأت في إجراءات مستحقاته المالية التي استلمتها، مستثمرة لها في شراء (ركشة)،
ولكنها سرعان ما أصيبت بعطب تأثرت علي خلفيته بشكل مفاجيء، لم تكن تضعه في الحسبان،
وكانت تأمل في أن يحل لها هذا المشروع المشكلة خاصة وأن المنزل الذي كانت تقيم فيه
مؤجراً، ضف إليه المنصرفات اليومية للمنزل والأطفال.
واجهت تلك السيدة المشكلة بصعوبة شديدة، بعد أن أغلقت أمامها
كل الأبواب، ومن المفجع أن يتدني مستوي الإستجابة لمأساة تمس أطفال لا ذنب لهم، وهي
ظروفاً جعلتهم كأنهم غرباء يفتقدون للدفء الإنساني، ورغماً عن ذلك كله نجد أنها أقتنعت
أنه لا يوجد فرد بمنأ مما تركن إليه آنياً، ولكن بالمقابل يبدو لها أن المجتمع ككل
مطالب اليوم بحث الناس للتكافل الإجتماعي، بعيداً عن التهديد الذي تتعرض له هذه الأسرة
أو تلك التي تعيش علي المقاومة في زمن التحديات الجسام.
عندما وقع الحادث المشؤوم لزوج هذه السيدة كانت حاملاً في
شهرها السادس، وبما أنها كانت تؤجر المنزل أنتقلت للإقامة مع والدتها دون أن تمتلك
وسيلة عيش سوي (الركشة) التي لم تعد موجودة بعد أن أصابها عطل لم تستطع إصلاحه لعدم
الإمكانيات المالية، الأمر الذي حدا بها عدم معرفة أن كانت في حلم أم واقع ملموس، فالإنسان
لديه طاقة محددة إذا تجاوزها يصبح مشلولاً، وهذا هو الوضع الراهن الذي لا قبل لها به
سوى أن تجلس في الإنتظار علي وسادة الحلم الذي هو أداة للإضطهاد والإذلال، خاصة
وأن المجتمع هو الذي يضغط علي الزناد دون سابق إنذار، ها هي تتخذ من الفقر معلماً في
حياتها لا شيء جديد يلغي هذه الأفكار، فإذا قالت أن المعاش الذي تصرفه يكفي لها ولأطفالها
الأربعة تكون كاذبة، فهل يستقيم العود والظل أعوج؟ الإجابة عندي بلا تردد لا، ومع هذا
وذاك لا تدري أن كان في مقدورها النمو الطبيعي، أم أنها ستفقد الدفء، وتبدو كإنما ثمة
قفزة ما في مرحلة ما نحو إتجاه معاكس كلية كل ما تعلمه أنها تبحث عن حلول.
فيما أجدها أمام ظروفها الإقتصادية القاهرة مقهورة حتي قاع
عظامها وتشعر بأن حرارة هذه الظروف ستصهر كل أمل يطل عليها في حياتها خاصة وأن الأحداث
والأوجاع والأحزان تتلاحق، فلا تجد ملاذاً أمامها يخفف عنها سوي والدتها وأشقائها الذين
مازالوا في مراحل دراسية مختلفة، فهم دوماً عندها الجوهر المشع صدقاً وحباً تحفظه لهم،
المهم أن تنقشع هذه السحابة المظلمة التي كلما حاولت أن تفرغ في ظلها شحنات حزنها وآلمها
وقهرها تطل عليها مجدداً ببطء، فتصطدم بجدران قوي من حيث البناء، ولا تجد أملاً في
إختزان الزمن طويلاً قبل أن يتدفق الحزن، ولا تندمل الجراح قيد إنملة رغماً عن إنها
لجأت لبعض المنظمات العاملة في الشأن الإنساني، ولكن النتيجة في النهاية صفر، وبعدها
بثانية فقط تصرخ ملء صوتها، وتنادي أطفالاً هم جزءً من مأساتها التي تتضايق منها لأنها
أعتمدت إعتماداً كلياً علي أسرتها التي تنتظرها واجبات معيشية لا حصر لها ولا عد.
وحينما أقف في المرحلة الدراسية التي لم تكملها أجد أن الظروف
وحدها التي قادتها إلي أن تقطع تعليمها في الصف الثالث إبتدائي، مما وضع أمامها فكرة
أن تعمل في وظيفة لا ينكسر بعدها شيء في عمرها
وتحزن كما تفعل، فلا تتحسس أمل مرئي، فتهرول علي شاطيئه إلا إنها لا تجده سوي رهاب،
وكلما مضت نحوه يتلاشي، فتعود للمربع الأول الذي تشعر فيه بالوحشة المطلقة يوماً تلو
الآخر، وحين تخذلها الدنيا كلها تظل ثمة مرافيء صغيرة تلجأ إليها، ولكنها ليست الحلول
الناجعة، فهي ليست منحازة لتوريث أبنائها أجنحة حتي لو كانوا متأكدين من عدم السقوط،
فلا يمكن لأحد أن يتعلم الطيران إذا لم يجربه بنفسه ويكسر جناحه أكثر من مرة، فالأمومة
تعني عندها درساً في الحب الحقيقي بمعني العطاء دونما إنتظار مقابل.
تعبيرها الوحيد عن حالتها الآتية دوماً كان بلغة بكماء، والخطأ
ليس فيها، إنما في قصور لغة الكلام المعطلة دائماً بالقيود المجتمعية في ظل المآسي
الإنسانية التي ترحل معها في تيارها الجارف غصباً عنها وتتسأل هل تعلم الإنسان كيف
ينصت إلي غير صوته الذي تحكمه ظروف معينة لا يد له فيها ولا قبل له بتغييرها خاصة أولئك
البسطاء وما أكثرهم في عصرنا الحاضر، من هنا كان حزنها كبيراً لأنها لا تملك ثمناً
لشراء رغبات أطفالها الأبرياء الذين كان قدرهم أن يتوفي والدهم في الحادث المروري وأن
يتم قطع دراستها من أجل تزويجها لأنها لو كنت تحمل شهادة دراسية كان توظفت في أي مهنة
حتي تصرف علي أبنائها الذين يدرسون في مراحل مختلفة، وحتي ذلك الذي في رياض
الأطفال رفضت إدارة الروضة تخريجه وحرمته من الفرحة مع زملائه.