بعد (8) سنوات قضاها خلف القضبان
........................
السجين : في السجن أصبحت معلماً وإماماً وخطيباً للجمعة والأعياد
.............................
جلس إليه : سراج النعيم
.............................
من أكثر القصص المؤثرة التي وقفت عندها قصة النزيل (ن) البالغ من العمر (50) عاماً حيث أنه حضر الدكتوراة من داخل إحدي السجون الولائية إذ كان يقضي فيها عقوبة السجن بتهمة تزوير عملة اجنبية، وأستطاع خلال تلك الفترة التحضير لدراساته العليا بالجامعة الولائية زائعة الصيت، وذلك من خلف القضبان .
وقال : دخلت السجن في قضية تتعلق بتزييف العملة وتشير الوقائع إلي أن أفراداً من المباحث بمدينتي مسرح الحادث طرقوا باب منزلنا حوالي الساعة الحادي عشر مساء في ذلك اليوم الذي كنت فيه نائماً، فما كان منهم إلا وطلبوا من أسرتي إيقاظي من النوم، وكان أن نفذوا ما أشار به رجال الشرطة، فتم إيقاظي ، وعندما خرجت إليهم وجدت نفسي أعرفهم بالأسم واحداً واحداً، فقالوا لي : إن مدير شرطة المحلية يطلب حضورك إليه، فقلت في قرارة نفسي ماذا يريد مني في هذا الوقت المتأخر؟ المهم لم يساورني الشك أن أكون متهماً في أي بلاغ، وذلك بحكم إنني مراسل لعدد من الصحف السيارة اليومية، بالإضافة إلي أنني معلم في المرحلة الثانوية، عندها توجهت معهم إلي قسم الشرطة الذي تخطينا فيه مكتب مدير شرطة المحلية، فقلت لهم : لماذا تجاوزتم المكتب المعني؟، فقالوا : نريدك لدقائق في مكتب آخر، ثم قالوا : أتفضل أجلس فلم يكن أمامي بداً سوي أن أفعل، ثم تسألت أين مدير شرطة المحلية؟، فقالوا : نريدك نحن، فقلت : إن شاء الله خير، قالوا : القينا القبض علي متهم بحوزته عملة مزيفة بالسوق، وعندما تم سؤاله عن المصدر أشار إليك، ثم وجهوا الي بعض الأسئلة : هل تعرف هذا المتهم؟، قلت : ما هو أسمه؟ قالوا : فلان الفلاني من المنطقة ( ........ )، فقلت : لا أعرف من هذه المنطقة إلا الطلاب الذين أدرسهم، هكذا استمر الحوار وفي نهايته ذكروا لي اسمه، فقلت لهم أعرفه فهو صاحب محل تجاري للتلفزيونات في السوق، فقالوا : نعم، ثم سألوني عن علاقتي به؟ فقلت : علاقة زبون مع صاحب محل، ثم أردفوا السؤال بآخر هل أعطيته العملة أم لا؟، فقلت : بلي، فقالوا : كم تبلغ قيمتها الإجمالية؟، قلت : ثمانية ألف ، فقالوا : أنت بتعترف، فقلت : أنتم قلتم أن العملة مزورة، وأنا لم أعطيه عملة مزورة، بل هي حقيقية، قالوا : من أين آتيت بها؟، قلت : أولاً أنا عدت من السعودية في وقت قريب، ثانياً هنالك حوالات تأتي إليّ من هناك بغرض توزيعها إلي أهلها، وحتى أنا كمعلم هنالك رسوم دراسية تسدد لي بالعملة الحرة.
واسترسل : كنت أتعامل مع المتهم علي أساس أنني وكيل مدرسة حيث أحضر له المايكروفونات المتعطلة لإصلاحها، وأثناء ذلك قال : (بدأت العمل في تجارة العملة التي أضعها بطرفي شهر أو شهرين وعندما يرتفع سعرها أقوم ببيعها، وقد سمعت أن هنالك مبالغ مالية بالعملة الحرة تصل إليكم في المدرسة من خارج السودان)، فقلت : المعلومة صحيحة وعندما يصلني مبلغ ما سوف أحضره لك، وعلي ضوء ذلك أصبح يطاردني بصورة مستمرة إلي أن جاءني مبلغ الثمانية ألف وأعطيته له، ومن ثم أتفقنا علي السعر الذي لم يسلمني في ظله ما تبقي من قيمة المبلغ المتفق عليه، هذه هي كل علاقتي بالمتهم، فقال أفراد المباحث : هنالك شهود يقولون أنك مشترك معه في هذا العمل؟، فقلت : لا مشكلة لدي فقط أحضروا هؤلاء الشهود الذين أتضح أنهم من رجال الشرطة، عموماً تم تحويل البلاغ إلي المحكمة، فكان الشهود الثمانية يقولون أنهم القوا القبض علي المتهم في (كمين)، وهو يحمل مبلغ الثمانية ألف في يده، ويريد أن يسلمها لشخص ما، وماذا عني أنا كمتهم أيضاً في البلاغ؟ قال رجال الشرطة : لم نشاهده ولم يستلم أو يسلم، فيما قال الشاكي : لم يشاهدني ولم يسمع باسمي إلا من خلال التحريات، وأنا شخصياً سمعت صوته عبر الهاتف ولم أشاهده، فالشاكي والشهود الثمانية لم يشيروا اليّ، ورغماً عن ذلك تم تفتيش منزلنا والمدرسة التي أدرس فيها أي أنهم قاموا بهذا الإجراء في كل الأماكن التي لها صلة بي ولم يجدوا ما يدينني فقط وجدوا (كرتونه) بداخلها ورق (A4) وجه إلي في إطارها سؤالاً؟ فقلت : أولاً أنا رجل أراسل عدداً من الصحف بالإضافة إلي أنني معلم فمن الطبيعي أن يكون بطرفي هذا الورق، ومن هنا أصبحت كل جلسات القضية تمضي في صالحي لذلك اصريت أمام المحكمة أن يتم إحضار صاحب رقم هاتف غريب ذو صلة بالقضية، وقلت له لا علاقة لي بالقضية، وفي الجلسة الأخيرة الخاصة بالنطق بالحكم كنت علي يقين من أنني برئ من الإتهام المنسوب اليّ، فما كان من المحكمة إلا وأصدرت حكمها علي في ثلاثة بلاغات هي (الإحتيال) التي تم الإعتماد فيها علي المتهم، والحكم الثاني كان يتعلق بـ(التزوير) و تم الاستناد في ذلك علي ورق (A4)، فما كان مني إلا أن أحضرت خبيراً من الخرطوم إلي المدينة التي حوكمت فيها، فقال : إن ورق (A4) موجود في كل مكان وحتى مكتبتي موجود به حيث أنه يستخدمه الكثير من الأشخاص، فيما أحضرت شاهد دفاع قال : (عندما أشتري المتهم هذا الورق قلت له ماذا تريد به؟ هل أنت مجنون؟)، فقال المتهم : هذا الورق رخيص لذلك من الأفضل أن أشتريه، وعلي خلفية ذلك حكم علي بـ(5) سنوات في تهمة (التزوير) وعامين في تهمة (ترويج العملة الأجنبية) وسنة بتهمة (الإحتيال) لتصبح جملة الأحكام (8) سنوات من تاريخه.
وأضاف : استأنفت الحكم الصادر ضدي، وكان أن جاء رد محكمة الاستأنف مؤيداً لحكم محكمة الموضوع بما أن المتهم الثاني شخصي يسكن قرية (.......) وضبط متلبساً بواسطة (كمين) بأذن من النيابة، ويحمل النقود المزورة في يده وأنا لا أسكن القرية التي تمت الإشارة إليها، ولم يتم ضبطي في (كمين) بالعملة المزورة، ولا أسكن في القرية (.......)، إنما المعني بها المتهم الأول.
وأردف : واستمرت القضية في درجات التقاضي علي أساس أنني أسكن القرية التي تمت الإشارة إليها في القضية، وعليه قضيت الفترة في السجن الذي كان بالنسبة الي جامعة من واقع أنني عندما تدربت عسكرياً كنت أقول من لم يتعسكر فإن حياته ناقصة، وحينما حكم عليّ ودخلت السجن أضفت من لم يتعسكر ويدخل السجن فإن حياته ناقصة، وعلي هذا المنوال أكرر أن السجن كان بالنسبة إلي جامعة فأنا بعد ثلاثة أشهر من تاريخ الحكم علي بالسجن لم يعد وضعي كنزيل، إنما أصبحت معلماً للنزلاء وأمام مسجد السجن وخطيب الجمعة والأعياد وأي برنامج يتم عمله في السجن يكون من خلالي وطورنا المسجد بالبناء عدة مرات وعلمنا الكثير من المساجين وأدخلنا الكثير منهم في الإسلام بفضل الله سبحانه وتعالي ولدينا برنامج شهري تحت عنوان نزلاء إصلاحيين نختار له نزيلاً يقف أمامنا لكي يقول خطبة وإذا كان لا يعرف نلقنه الخطبة إلي أن يصبح لسانه طلقاً فاستطعنا بهذا النهج أن نخلق من السجن مؤسسة تربوية عملاً بشعار السجون إصلاح وتهذيب حتى أن السجن أضحت له علاقات مع الأكاديميات والجامعات وأصبحوا لديهم برامج مستمرة وكل سنة نخرج عدداً كبيراً من النزلاء المحكومين في ( يبقي لحين السداد ) الذين حكموا في مبالغ لا تتجاوز العشرين مليون .
ومضي : أما الدكتوراة فقد حضّرت لها بعد أن شعرت بفراغ في السجن حيث بدأنا نملأه بالمحاضرات اليومية في العقيدة والسيرة، عندها قلت في قرارة نفسي لماذا لا أعمل الماجستير وأحضر الدكتوراه؟ وعلي خلفية ذلك جلست مع مدير السجن الذي تحمس للفكرة وخاطب إدارة سجون السودان فردوا رداً جميلاً قالوا في مضمونه أنه من الفخر والإعزاز لسجون السودان أن يكون من بينها نزيل يحضر الدكتوراة، وكان أن بدأت مشواري بدفع رسوم التسجيل للجامعة في علم اللغة العربية وعلي إثر ذلك وجدت مساعدة كبيرة جداً من إدارة السجن، وكانت الرسوم (7) ألف جنيه تم تخفيضها بنسبة 50 % في إجتماع مجلس إدارة الجامعة، وقد وجد موضوعي تجاوباً من إدارة السجن وإدارة الجامعة، فأصبحت بذلك أدفع دفعاً لإنهاء رسالة الدكتوراة، ومن شروطهم أن تتم مناقشة الرسالة بعد ثلاث سنوات إلا أن إجتماع مجلس الأساتذة بالجامعة استثناني وسمح لي بالمناقشة في عامين ونيف، وبفضل الله سبحانه وتعالي أكملت رسالة الدكتوراة، ولولا السجن لما استطعت أن أنجزها في هذه السنوات.
وما الذي افتقدته وأنت خلف القضبان طوال السنوات الماضية؟ قال : افتقدت دفء الأسرة وافتقدت الزوجة، فأنا قبل الحكم عليّ حضرت شيلتي بكل محتوياتها حتى أكمل نصف ديني إلا أن القضية التي سجنت فيها وقفت سداً منيعاً من أن أتزوج من خطيبتي التي اخترتها من بين ملايين الفتيات وتمسكت بي أكثر من ذي أول، ولكنني رفضت أن تنتظرني (8) سنوات لدرجة أدخلت وسطاء أستطاعوا إقناعها أن تعيش حياتها، ولكن بعد مرور كل هذه السنوات التي قضيتها شعرت أنني لو كان لدي زوجة أو ولداً أو بنتاً الوضع كان سيكون أخف بكثير، فأنا احتجت للأسرة، حقيقة احتجت للأسرة وعملت بعض المحاولات لكي أتزوج من داخل السجن وهي رغبة تراودني.
ما هي مشاهداتك من داخل السجن؟ قال : أنا راض عن السجون السودانية ولكن عليها أعباء كبيرة جداً الأكل الشرب الملبس وراحة النزلاء وعلاجهم.