كثيراً ما يجد الإنسان نفسه مرقماً للعيش في عالم
(منفلت)، ومليء بالتناقضات التي لا تراعي الأخلاق والقيم، وتظهر المسألة جلياً كلما
خرج الإنسان من منزله إلي الشارع العام، والذي نأسف له حقاً أن الإعتقاد السائد هو
أنه في إمكان فرض ذلك النهج السالب وإيجبار علي الآخرين علي الصمت، وحينما يفعلون ليس
خوفاً، إنما إحترامأ لمن يحيطون بهم في أي مكان، وهذا أن دل علي شيء، فإنما يدل علي
إداركهم ووعيهم، وتتجلي تلك الصورة في مقولة العالم الألمانى (ماكس فايبر) الذي قال
: (إن العالم الذى نعيش فيه اليوم لا يبدو لنا، أو نستعشر أنه يشابه ذلك العالم الذي
تنبأ به المفكرون، فبدلا من أن نقبض عليه، ونخضعه بصورة متزايدة لسيطرتنا، فإنه يبدو
مستعصيا علي الخضوع حتي أصبح عالماً منفلتا)، لذا أتفق مع العالم الألماني ماكس بأن
عالم اليوم أضحي عالماً منفلتا، وليس في إمكاننا إستشرف آفاقا تكبح جماح إنفلاته، خاصة
مع التطور الذي نشهده في ظل (العولمة) ووسائطها المختلفة، التي تكاد أن تجعل وصف عصرنا
هذا بالعصر الجاهلي حقيقة لا مناص منها، فهنالك سحابة تظلل سمائنا، ويكتنفها الكثير
من الغموض والإبهام، والذى ربما حجب عنا الإقتداء بالفكر الإسلامي المحافظ علي الأخلاق
والقيم الفاضلة التي بلغ بها المسلمين علي مر العصور شأوا عظيماً، وتمكنوا من خلالها
نشر الديانة الإسلامية، وبه تحدوا وهزموا الاعداء رغماً عن توصل علمائهم ومفكريهم إلي
إنتاج (العولمة)، ووسائل إتصالها المختلفة التي جعلت البشرية- بلا هوية، وهويتها إتباع
النهج الغربي التحرري الذي وضعنا في مأزق لا خروج منه، إلا بالإسلام لما فيه من علاج
ناجع لكل داء ببلاغته وفصاحته وبيانه .
إن مجمل ما يصيب الناس والمجتمع من نكبات وأزمات
إيا كانت فإن اثارها المترتبة عليها، يجب مكافحتها بإعتماد الدين الإسلامى شريعة عامة
حتي نتمكن من تجاوز ظلام (الجاهلية) الحديثة، ضف إليها سنة سيدنا محمد صلي الله عليه
الذى بلغ ما أمره به الله سبحانه وتعالي رغماً عن المحاولات الفاشلة لإفساد الأجواء
الصالحة، وإبدالها بالأجواء المليئة بالضبابية، والمشوشة لطريق النور الذى انبثق في
أوائل القرن السابع للميلاد، وعلي إثر بذوغ فجر رسول الله صلي الله عليه وسلم انطفئ
كل ماهو حائر عن الحق بآرثه وماضية المظلم، ولكن بمرور الزمن ها نحن نعود إلي ما أندثر
قديماً بالأفه الجارفة لنا نحو عوالم الظلال القاتم الذي إنقاد إليه الكثير ما عدا
قلة قليلة تتقاذفها المحن والهزات والخطوب بأحاكة الخطط الخبيثة التى تتحطم علي صخورهم،
فلكل آفه علاج هو التمسك بكتاب الله سبحانه وتعالي وسنة رسول الله صلي الله عليه وسلم،
فبلا شك العمل بهذا النهج سيجعل المجتمع مضيئا بالمشاعل، وليس ممزقا، لذا علي الناس
الوعي بالمخاطر المحدقة بهم من كل حدب وصوب، وأن لا نجاة لهم، إلا بالرسالة المحمدية
التي جابهت تحديات الجاهلية القديمة التي بدأت تعود إلينا بعد أن طويت مئات السنين،
وهذه العودة يبدو أنها نتاج تطور الحياة باكتساب الظواهر السالبة التي هي الاسوأ خلال
أربعة عشر قرنا من الزمان.
إن الإسلام أذهل حتي أبناء أمته للحقائق التى سبق
بها العلوم في العالم الذي ينجرف بنا للجاهلية مرة أخري، وللخروج من هذه الورطة علينا
العودة للذي لا يغني ولا يبلي، فالقرآن المعجزة التى لا تحد ولا تعد فهو (كلام الله)
سبحانه وتعالي لقوله : (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) - وأيضاً جاء فى
محكم تنزيله : (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وانزلنا إليكم نوراً مبيناً).
مما لا شك فيه أن (الأزمة) لها أثارها بعيدة المدي
لأننا مازلنا نتباكى علي حالنا، وننظر للأمور بسطحية ومن منطلق اللحظة وما نمر به يستلزم
الحسم والمصارحة والمجابهة والمحاسبة، بدلاً من أسلوب التغطية والإدعاء، فالجراح مهما
كانت عميقاً وقاسيا، فإنه يحتاج للعلاج الناجع حتى ولو أدى ذلك للإستئصال، فالداء المزمن
لا تصلح معه المسكنات، لذلك على الناس الإتجاه للنهج السوي وترك الأفكار النظرية.
إن الإنسان ومنذ صرحة ميلاده الأولي يكتسب عادات
وتقاليد إيجابية وسالبة، وبالتالي إذا نمي فيه الإيجابية بالتربية المعززة للأخلاق
والقيم، فإنه سيمضي في الإتجاه الصحيح، أما إذا لم يفعل فإن سلبيته لن يطيقها الناس،
وسيمتعضونه في الغد، لأنها تندرج في إطار عدم الإنضباط الذي يقلبون به السلوكيات ﺭﺃﺳًﺎ
ﻋﻠﻰ ﻋﻘﺐ؟، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد إنما يمتد إلي وسائط الميديا الحديثة من خلال
كتابة (بوستات) عبر المواقع الإلكترونية، (الفيس بوك) و(الواتساب)، فهي تكتب بلغة موغلة
في عدم التقيد بالأخلاق والقيم، ويحاول كاتبوها تطويع الكلمات لتحقيق أجندة خفية يقلبون
بها الحقيقة إلي زيف، والخطأ إلي صواب !!.
لم أكن أود أن انكأ الجراح إلا أن الظاهرة تزداد
يوماً تلو الأخر، وتفوح منها روائح نتنه تزكم الأنوف، وتعبر صراحة عن (ضيق الأفق)،
ومهما حاولت أن تهديهم إلي الطريق القويم، تجد أنهم أصبحوا مدمنين ويتمادون في غيهم
وغثائهم، رغماً عن أن مجتمعنا فيه الكثير من الظواهر السالبة وما يكفيه، وبالتالي لسنا
في حاجة إلي المزيد من الظواهر الهدامة لنسيج المجتمع المتماسك قبل عصرنا اليوم.