..................................
من أكثر القصص التي وقفت عندها متأملاً عميقاً القصة التي تحمل بين طياتها الدهشة والاستغراب، قصة العالم الشيخ (بشير محمد بشير)، الذي ظل صامتاً منذ ربع قرن، أي أنه توقف عن الإفصاح عما يجيش في دواخله من أفكار، أو تجاذبها شفاهه في المحيط الأسري أو المجتمعي، إلا أنه يحرص علي التواصل مع الآخرين من خلال ترجمة أفكاره بالتدوين علي الورقيات بالأقلام، اللذين يلازماه في حله وترحاله، هكذا تمضي حياته دون كلل أو ملل من ذلك الصمت، الذي له فيه حكمته وفلسفته.
ومما ذهبت إليه كنت حريصاً علي البحث عن معلومات حول الحالة النادرة لهذا الشيخ، ليس علي مستوي السودان، بل علي مستوي العالم أجمع، الأمر الذي قاد إلي طرح التساؤلات لماذا آثر الصمت عن (الكلام) بمحض إرادته، وما الأمر الذي يجعله يترك الباب موارباً للتساؤلات؟ التي ظلت ترسم علامات استفهام في أذهان الكثير من الناس، فالبعض منهم كان جريئاً، بطرح ما يدور في مخيلته، للشيخ (بشير) بصورة مباشرة، فيأتي إليهم الرد بطريقته المميزة التي أشرت لها في سياق حالته الفريدة في نوعها، ولم يكتف بالصمت عن (الكلام)، إنما آثر أيضاً عدم الإسراف في أكل الطعام، مروضاً نفسه علي الصوم طوال السنوات الماضية ومازال ينتهج ذلك السلوك، الذي يعد حالة من الحالات النادرة جداً.
هيا نتعرف علي الشيخ (بشير)، حيث نجد أنه تلقى دراسته الأكاديمية بجامعة (السوربون) الفرنسية، حائزاً منها علي درجة البكالريوس، ثم الماجستير في (الاقتصاد والعلوم) في العام 1977م، وبالرغم من ذلك لم يكترث إلي تحصيله الأكاديمي، بل أتجه إلي أن يصبح فقيهاً متبحراً في الدين الإسلامي، بالإنضمام إلي خلاوي الشيخ الراحل عبد الرحيم البرعي، وبقي ملازماً له في (الزريبة) بولاية شمال كردفان، منذ العام (1978م إلى 1996م)، وخلال هذه الأعوام أكتسب الكثير من العلوم الإسلامية، وبعد أن نال مراده آثر عدم التحدث شفاهة، مكتفياً بالرد علي الإستفسارات بالورقة والقلم.
أما عندما نتصفح سيرته الذاتية، فنجد أنه من مواليد العام 1956م، بقرية أم (سريحة) ريفي مدينة (الرهد)، ومتزوج ولديه أبناء، وتعود جذوره إلي أسرة متدينة، بحيث أن جده لأبيه من حفظة القرآن.
فيما قدم الشيخ الصامت بحث (الماجستير)، بعنوان (الاقتصاد والتداعيات الدولية في القرن الواحد والعشرين) في العام 1977م، وتضمن بحثه فكراً متقدماً عن التاريخ الذي عرض فيه علي الجهات المختصة لإجازته، وقد خلص البحث إلى أن الاقتصاد العالمي سينهار ما بين النظرية الاشتراكية والرأسمالية، وهذا البحث كان بمثابة تنبؤ لواقع ملموس.
وعندما عاد من فرنسا إلي السودان توجه مباشرة إلي خلاوي الشيخ عبدالرحيم البرعي الشهيرة بـ(الزريبة)، والمعروف أنها منارة من المنارات السامقة لتلقي العلوم الدينية، التي قادته إلي التصوف الذي استطاع من خلاله تحقيق مقاصده.
بينما ظل يكتب ويركز في كتاباته على الدراسات والابحاث والعلوم القرآنية، مستفيداً من فترة التحاقه بـ(زريبة) الشيخ البرعي، الذي أشار إليه في العديد من اللقاءات التي أجريت معه، مؤكداً أنه صدح بالقصائد التي ألفها في مدح سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم، وهكذا كان يتحدث وينشد إلى أن صمت نهائياً في تسعينيات القرن الماضي، ويقول : (سأتحدث متى شاء الله سبحانه وتعالي لي ذلك)، مؤكداً أنه رغماً عن ممارسته الصمت، إلا أنه يشارك في المناسبات الاجتماعية.
وأضاف : أتابع بصورة مستمرة القنوات الفضائية، واستمع إلي الإذاعات، وأقرأ الكتب والصحف والمجلات، لكن (اختار الصالح واترك الطالح)، ومعظم الأوقات المحببة له يقضيها في الإنصات لتلاوة القرآن وسماع المدائح النبوية، وقد كتبت العديد من المقالات التي تشير إلي تجربته بوضوح، أبرزها الكتاب بعنوان (الطريق لاتجاه واحد) في العام 2001م.
وفي السياق أجري معه تلفاز السودان في العام 2000، أول لقاء، أجاب فيه علي الأسئلة المطروحة عليه بالكتابة عبر الورق، بعد إستماعه إلي السؤال، وفي تلك الإستضافة كتب : (منع اللسان عن فضول الكلام، لأنه كهف البلاء وجالب الآفات، إن من الصمت لحكمة، فإن كانت من تفيد البعضية بالكل؟ والصمت الحكمة في النفس ويبعث الجمال في القلب).
وقال إنه منذ أن بدأ هذه التجربة، وقد فارقه الندم لأن الندم يأتي مع الكلام، حتى قلمي أخذته الغبطة من نعمة صمت لساني فصار لا يكتب إلا ما يبعث السرور في قلوب جلسائي، فوجدت في الصمت راحة البال، صار يفرحني الحزن ولا حزن مع الفرح بالطبع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق