.................................
من وسط ذلك الزحام أطلت السيدة ، وهي تبكي بمرارة شديدة على فقدها شقيقها الوحيد البالغ من العمر أكثر (55 عاماً) أمضي منها سنوات في التواري عن الأنظار بهذه الدولة المضطربة، مما ترك الباب موارباً للأمل، فثمة موجة صوتيه غير مسموعة يتقن قلب والدته وشقيقته الإنصات إليها وإلتقاطها، فالأمل في العثورعليه يشدهما بكلمات تتأوه وتفتن بالاحاسيس والمشاعر المشحونة بالوحشية، الفجيعة، الغربة والتوق الغامض للدفء الانساني.
تشير الوقائع إلي أن شقيق السيدة المختفي في ظروف يشوبها الكثير من الغموض الذي يحمل في حناياه مرارة الدنيا والتجربة، وهي تجربة مؤلمة جداً تجربة قاسية جداً بكل ما تحمل هذه الكلمة من معني، وهذه الصفات التي يمتاز بها هذا الإختفاء الغامض تطرح العديد من الأسئلة الصعبة التي خلقت عالماً من الابطال والحكايات المثيرة، فالسيناريو اشبه بسيناريوهات تفتش في الظلمات عن موطيء قدم يعيد إلى هذه الأسرة الإبتسامة التي فارقتها ردحاً من الزمان، إذ أنها لم تكن تتخيل أن الوجوه سوف تتسلقها الدهشة، والصوت تأسره نبرات الحزن، وما تكاد والدته تسمع عنه إلا ويصيبها مس أقرب إلى تيار كهربائي يهز من دون أن يصعق، خاصة وأن المفقود دفع ثمناً باهظاً من أجل أن يحقق حلمه وحلم أسرته، وذلك بالبحث عن لقمة العيش بعيداً عن أحضان الوطن.
القصة تتعلق بخيط رفيع من الأمل دفعت به شقيقته في السنوات الأولي حيث أنه هاجر إلى ليبيا للبحث عن القوت ومساعدة أهله في سد النقص وتخفيف أعباء المعيشة، وبالرغم من أنه لم يكن يدري أن المصير مجهول إلا أنه حرص على تزويج شقيقته إلى إبن خالته تاركاً إياها أمانة في عنقه قبل أن يشد الرحال ، وفي نظري فإن هذه القضية كاللغز، هكذا ظللت على مدي السنوات الماضية، وليس أدل على ذلك من حالة والدته فالحزن على إبنها جعلها في حالة إنسانية يرثي لها، فكلما مر يوماً تسأل عنه، فما حيلتها غير الصبر إلى أن تصل إلى حقيقة، وبالتالي تتعلق تلك الأسرة بخيط رفيع من الأمل، وأي أمل هذا الذي يرتكز على المجهول، وسنوات الحزن والجراح لم تندمل، وتطرق السيدة كل الأبواب، وهي تقول : (لقد تعبت)، وهاهي تلقي على كاهلها ما يمكن أن تنجزه من ترميم للمعنويات المثقوبة، فتسألني ما أنوي فعله غداً؟ فأقول لها دعي الغد يهتم بشأنه، ويكفي كل يوم يمر على إختفاء شقيقك يحمل بين طياته الكثير من الأمل الذي يلخص شعورك وشعور والدتك في هذه اللحظات التي تعملي فيها على فك طلاسم هذه القصة التي طال أمدها، أما حينما تكرر علىّ السؤال؟، فإنني لا أدري ما الذي يمكن أن أقوله لها حتي أخفف عنها ثمة احاسيس ومشاعر، ثمة أسئلة حائرة، ثمة أجوبة لا تشفي بعضاً من تلك المعاناة، ثمة حوار ما زال مستمراً وسط دوي ذلك الإنفجار!.
بكل صدق لا أدري إن كانت كل هذه التداعيات مصادفة، أم أن الأقدار رسمتها على هذا النحو كجزء من دعواتها لإخراج الحقائق من دهاليز الظلمة إلى ضوء الشمس، بحيث تصير تلك الحياة إيجابية، كيف وشقيقها آثر أن يسافر إلى الدول النفطية المضطربة، وكان في باديء الأمر يبعث لهم بالمكاتيب للتأكد أنه يعمل في إحدي المزارع هناك، وبعد مرور ثلاث سنوات على ذلك عمل جاهداً على إرسال بعض المبالغ المالية مع القادمين إلى الوطن، لكن بكل أسف لم تصلهم إلا أن مكتوباً آخراً وصلهم يؤكد أنه يعمل بنجاح، وهو يخوض التجربة لأول مرة في حياته بعد أن أصبح العائل الأوحد لهم، إذ توفي والده وترك له مسؤولية على عاتقه، وكان قدر هذه المسؤولية إلى أن اطمئن علي شقيقته بالزواج من إبن خالته الذي هو يقوم مقامه في رعايتهم، إلا أنهم في شوق لرؤيته أو معرفة أخباره على الأقل حتي لا ينمو في دواخلهم مناخ الحوار والنقاش المحرك للاحاسيس والمشاعر السالبة قائم، فهل هذا ممكن؟.
ومن هذا المنطلق بدأت رحلة البحث عنه بالسؤال الذي توجهه إلى كل شخص ذاهب أو عائد من هناك أو أولئك الذين يذهبون أو يعودون من مصر، بينما تعرض عليهم آخر صورة التقطت له مع بعض أصدقائه قبل أن يشد الرحال إلى هناك، ثم تتساقط منها الدموع مدراراً وتقطع الحوار لتدخل في نوبة بكاء، نعم بكاء شديد، وهي تقول : (هذه الصورة آخر ذكري تركها لنا، ولا يوجد غيرها بحوزتنا، لذلك ظللت أحافظ عليها محافظة شديدة على مدي السنوات الفائتة، وكلما أنتقلت إلى مكان لا تفارقني ولو لكسر من الثانية، ولكن عندما علمت من بعض السيدات اللواتي يقطن بجوارنا بأن صحيفة (الدار) تمكنت من إعادة الكثير جداً من المفقودين أو المختفين عن أهلهم في ظروف غامضة، ها أنا آتي إليها من هناك مباشرة حتي تساهم في إيصال صوتي ومن وراء كل ذلك تابعت سلسلة (عائدون من جحيم الموت والهلاك) بشكل يومي حتي أن صاحب المكتبة أصبح يحجز لي نسختي، ولو لم آتي إليه).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق