بدأت علاقتي بالفنان الراحل محمود عبدالعزيز في منتصف
تسعينيات القرن الماضي وامتدت إلي المحيط الأسري إذ أنني رأيت فيها الفنان الذي
تدرج بموهبته الفنية الشاملة.. فاستطاع أن يخلق لنفسه مدرسة خالدة في ذاكرة
المتلقي.. ورغما عن أن الأغنية السودانية كانت تتمرحل من عصر إلي آخر.. وتظهر من
خلالها تجارب متعددة المدارس إلي أن وصلت من مرحلة إلي آخري بثوبها الزاهي الذي طرزه
عمالقة علي مدي السنوات الماضية.. بعد أن كانت تركن للإيقاعات الشعبية والكورس
الذي كان يمثل البديل للفرقة الموسيقية.. وكان يصاحب الأغنية الشعبية الريق والكورس
والإيقاعات والرقصات التي تتميز بها قبائل سودانية مختلفة في اللهجة والسحنة.. ثم
أخذت الأغنية السودانية في الاتجاه نحو القومية بالنصوص الإنشادية والغنائية
والصوفية إلي أن ظهرت في الساحة أغنية الحقيبة التي رسخت لها الإذاعة السودانية من
خلال برنامجها الشهير ( حقيبة الفن) الذي يعده ويقدمه الإذاعي المخضرم عوض بابكر..
والتلفزيون القومي عبر برنامج ( نسائم الليل ) الذي يعده ويقدمه الفريق شرطة
الراحل إبراهيم احمد عبدالكريم الذي قدم الحوت بشكل مختلف وكان لهذين البرنامجين
دورا كبيرا في نشر الأغنية السودانية.. فحظيت بالمتابعة حتى من الشباب من الجنسين فازدهرت
للتعريف بها وبقصصها التي كانت تتسم بها فعرف المتلقي عمالقة شعراء أغنيات الحقيبة
محمد بشير عتيق، ابوصلاح، عبدالرحمن الريح، العبادي.. ولأنها كانت كلمات مميزة
وجدت طريقها إلي أذن المتلقي عبر صوتي الفنانين الراحلين ﻛﺮﻭﻣﺔ ﻭﺳﺮﻭﺭ إلي أن
أصبحت أغنية الحقيبة مرجعا لكل من يود أن ينتمي للحركتين الثقافية والفنية فلم يكن
الفنان الراحل محمود عبدالعزيز بعيداً عن هذه المرجعية فأنتج البوماً كاملاً يوثق
فيه لهذه المدرسة المتفردة.
وجاءت بعد مرحلة أغنية الحقيبة الأغنية الحديثة المتطورة
باستخدام الالآت الموسيقية وصياغة النصوص الغنائية ووضع الألحان المواكبة للتطور
الطبيعي الذي تشهده الأغنية التي أطل في مشهدها الحديث الفنانين إبراهيم الكاشف،
احمد المصطفي، حسن عطية فصدحوا بالنغم الجميل الذي وجد قبولا منقطع النظير من
الجماهير التي كانت تنظر الجديد في هذا الإطار الذي برز فيه بعد الثلاثي الذي أشرت
له الفنان الراحل إبراهيم عوض الذي أطلقت عليه الجماهير لقب ( الذري ) الذي اخطط
لنفسه مدرسة حديثة مغايرة لكل المدارس السابقة ثم أعقبه العملاق محمد وردي، عثمان
الشفيع، عثمان حسين.. وهكذا استمرت مدرسة الأغنية السودانية الحديثة إلي أن ظهرت
مدارس فنية بطعم مختلف منها مدرسة الموسيقار محمد الأمين، العندليب الأسمر زيدان
إبراهيم، ابوعركي البخيت، مصطفي سيداحمد.
ومن المدارس سالفة الذكر كان المتلقي موعدا بمدرسة جديدة
إلا وهي مدرسة الأغنية الشبابية ذات المفردات السهلة والبسيطة.. فيما نجد أن جملها
الموسيقية.. جمل قصيرة..متقطعة.. أما شكل الأداء فيتسم بالسرعة.. وهي المدرسة التي
أسس لها الفنان الأسطورة محمود عبدالعزيز فالتف حوله النشء والشباب الذي كاد أن
يفقد هويته في ظل موجة ظاهرة الأغاني الغربية والعربية التي أنتجتها الوسائط
التكنولوجيا الحديثة التي جعلته يهجر الأغنية السودانية.. إلا أن الحوت أعادهم
إليها من هجرة امتدت لسنوات وسنوات متصلة دون انقطاع.. فطاب للأذن الشبابية المقام
في حضرة صوت الفنان الراحل محمود عبدالعزيز الذي بادلهم الحب بحب أعمق فاطرب
وجدانهم بالتنوع في اختيار النصوص الغنائية والألحان الموسيقية.
فرض الحوت نفسه بقوة علي فئات المجتمع السوداني من خلال الإنتاج
الغزير.. رغما عن النقد الذي كان يتعرض له في بدايته الفنية.. إلا أن ذلك النقد
الهدام لم يزده إلا قوة وإصرارا في نشر مدرسته الرسالية فصمد أمام تلك الموجة
الجارفة التي دافع عنها بإنتاج الألبومات المتميزة التي أجبرت النقاد علي تغيير
وجهات نظرهم في تجربة الفنان الراحل محمود عبدالعزيز الذي استطاع في فترة زمنية وجيزة
أن يسيطر علي الساحة الفنية.. ساحبا البساط من الفنانين كبارا وشبابا.. فأصبحت له
جماهيرية طاغية.. جماهيرية لاتضاهيها أية جماهير حظي بها فنان علي مدي سنوات
الأغنية السودانية.. ويكمن سر الحوت في تميز صوته عن أقرانه.. فوظف ذلك الصوت في
إيصال رسالته بالتغني لكل بقعة من بقاع الوطن الممتد بما فيه جنوب السودان الذي
أصبح وطنا قائما بذاته.. أي أنه غني للوحدة.. غني لإقليم كردفان.. دارفور..
الشرق.. الشمال.. الوسط ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ.
كان الفنان الراحل محمود عبدالعزيز فناناً بكل ما تحمل
الكلمة من معني.. لذلك كان محل اهتمام من الكبار قبل الشباب ﺍﻟﻜﺒﺎﺭ فلم يسبقه علي
ذلك المجد أي فنان في الحركة الفنية السودانية.. ومع هذا وذاك كان مهموما بما يجري
في أروقة السياسة التي انتمي في إطارها إلي الحركة الشعبية بعد توقيع اتفاقية
السلام وأنشد للمؤتمر الوطني الذي أصبح بعد الانفصال ناشطاً وفاعلاً حاضراً في كل
برامجه ﺍﻧﻀﻢ ﻟﻠﺤﺮﻛﺔ ﺍﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﻭﺍﻧﺸﺪ ﻟﻠﻤﺆﺗﻤﺮ ﺍﻟﻮطني الذي أصبح ناشطاً
وفاعلاً وحاضراً في كل برامجه الثقافية.
نال الفنان الراحل محمود عبدالعزيز عدداً كبيراً من الألقاب
التي أطلقها عليه جمهوره ومعجبوه أبرزها ﺍﻟﺤﻮﺕ، ﺍﻟﺠﺎﻥ،الإنسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق