الخرطوم : سراج النعيم
دائماً ما أعود إلي مكتبة والدي عليه الرحمة لما تحتويه من مؤلفات دينية
ومن بين تلك المؤلفات التي درجت علي مطالعتها بصورة مستمرة حيث وجدت نفسي مرغماً
علي الوقوف بتأمل فيما سطره قلم أبي القاسم ﺍﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﺣﺒﻴﺐ عبر مؤلفه تحت عنوان (ﻋﻘﻼﺀ
ﺍﻟﻤﺠﺎﻧﻴﻦ) الذي عمد من خلاله إلي رواية قصة تتعلق ببهلول بن عمرو ﺍﻟﺬﻱ كان آنذاك
الوقت يوصف بالجنون فجاء عنه أنه التقي ذات مرة بالأمير هارون الرشيد وصادف ذلك
اللقاء أن بهلول بن عمرو كان ﻋﻠﻰ ﻗﺼﺒﺔٍ ﻳﺠﺮّﻫﺎ، وأثناء ذلك يمضي خلفه بشكل مباشر
بعض الصبيان وهم يلهون معه فقال له هارون الرشيد : ﻛﻨﺖ ﺇﻟﻴﻚ ﺑﺎﻷﺷﻮﺍﻕ، فأجابه ﺑﻬﻠﻮﻝ
علي جناح السرعة قائلا : إلا أنني لم أشتق إليك، فقال هارون : أرجو منك أن تقدم لي
الموعظة فرد بهلول متسائلاً وبماذا أعظك يا هارون؟ سوي أن أقول لك ﻫﺬﻩ ﻗﺼﻮﺭﻫﻢ، ﻭﻫﺬﻩ
ﻗﺒﻮﺭﻫﻢ .
ويستمر الكاتب في رواية القصة بحوارها الدائر بين هارون الرشيد وبهلول بن
عمرو قائلاً : وﺗﻨﺘﻬﻲ الحكاية بينهما ﺑﻬﺮﺏ ﺑﻬﻠﻮﻝ بن عمرو ﻣﻦ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻷﻣﻴﺮ هارون
الرشيد، ﺭﻏﻢ ﺍﻹﻏﺮﺍﺀﺍﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﻋﺮﺿﻬﺎ ﻋﻠﻴﻪ .
ما خرجت به من حكمة وعظة من القصة سالفة الذكر التي قمت باختزالها في ذلك
الحوار الذي جري بين بهلول و هارون هي أن الحياة بكل ما فيها من اختصرها لنا بهلول
في مشهد القبور الصغيرة المتفرقة هنا وهناك في هذه المدينة أو تلك المنطقة وهذه
الموعظة تقودني إلي مشهد آخر يتمثل في الجنازة المحمولة علي الأعناق فمن الملاحظ
أنه يتم الإسراع بها إلي مثواها الأخير بعد أن خلف وراءه ما كنزه في حياته قبل
مماته أي أنه ترك الدنيا بكل ما فيها من قصور ومنازل وأرصدة في البنوك يرثها بعده
أهل القربى.
وكلما مررت صباحاً ومساء القي بالتحية علي من رحلوا فهم السابقون ونحن
اللاحقون لذلك علينا أن نهتم بالمقابر اهتماماً متواصلاً وأن لا نفكر في أن نستقطع
منها جزءا لأمر دنيوي أو أن نستخدم تلك القبور للدجل والشعوذة كالروايات التي
رواها لي قبلاً السيد عابدين درمة حفار القبور الشهير ومدير مقابر احمد شرفي وما
لا يعلمه الكثير من الناس أن القبور في داخلها الهدوء والسكينة والصمت الذي
التمسته كلما سجلت زيارة للوالد والوالدة حيث أنني أظل أتأمل في الموت بصمت لكي
أخذ العظة والعبرة من الشواهد الماثلة أمامي.
فأنا دائما أجد راحة تامة في المقابر ﻷنها سبيل الأولين والآخرين ولا أقول
أنني لست كسائر الناس الذين يشعرون في بعض الأحيان بالخوف من الموت الذي يجب أن
نفكر فيه من واقع ما أشار به الدكتور علي الكوباني طبيب التشريح الشهير الذي أكد
أن للجثمان لغة تخاطب ومن لا يتقن تلك اللغة لن يصل إلي نتيجة حول أسباب الموت
الذي لن تشعر به إلا من خلال زيارتك للمقابر ما يجعلك تشعر بالموت يحيط بك من كل جانب
إلا أن هنالك من يغفلون ذلك ولا يتذكرونه إلا حينما يفقدون عزيزاً رغماً عن أن
الموت يتربص بهم في كل حركاتهم وسكناتهم دون أن يأبهوا به ﻷنهم سرعان ما ينسونه
لمجرد أن عادوا من المقابر ولكن إذا داوموا علي العودة للقبور ما بين الفينة
والآخري ولو لدقيقة واحدة فأنهم بلا شك سيختزلون المواعظ والعبر لما تحمله تلك القبور من مشاهد وقصص تكفي الإنسان من الركض
وراء الدنيا الزائلة واجزم أن من يفعل مثلما أفعل سيشعر بتغيير كبير في حياته وبكل
تأكيد سيجد حياته تمضي في المسار الصحيح فيكفي أن الموت واعظاً لمن لا يتعظ مما
يجري حوله وأيضا أقف بكل شفافية في المقولة التي قالها الشاعر الانجليزي : (ﻻ ﺗﺴﺄﻝ
ﻟﻤﻦ ﺗﺸﻴّﻊ ﺍﻟﺠﻨﺎﺯﺓ، ﻭﺍﻋﻠﻢ ﺃﻧﻬﺎ ﺗﺸﻴﻊ ﻟﻚ) .
ما قادني للتطرق للموت هو ما نشاهده يومياً من مشاهد لا تشبهنا بل هي صور
منقولة بالكربون من الثقافات الغربية التي أفرزتها العولمة الأمريكية كتشبه النساء
بالرجال والعكس وإلي أخره من الظواهر السالبة المتفشية في المجتمع وربما تفشي تلك
الظواهر ناتج عن الابتعاد عن النهج الذي خطه لنا الدين الإسلامي الذي جسد في دواخل
كل منا رهبة الموت فالموت يا هؤلاء خاتمة الحياة لذلك اجعلوا خاتمتكم حسنة فنقطة
الموت نقطة فاصلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق