الاثنين، 20 فبراير 2012

العملاق وردي في حوار استثنائي قبيل الرحيل المر :



هذا رأيي في توقيع اتفاقية السلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية
مشاركتي في احتفال نيفاشا جاء بطلب من النائب الأول لرئيس الجمهورية
أنا ضد اتجاه الفنان للسياسة كلياً لأن السياسة مبنية علي المصالح ولكن ..
جلس إليه : سراج النعيم
مع عناء الحياة.. دائماً اتكئ على ما يطرحه العملاق محمد وردي من أعمال غنائية خالدة في ذاكرة الأمة السودانية.... إذ أن أغانيه تمثل للناس متعة وترويح عن مشاغل الحياة الكثيرة ووردي كان يغني بالرطانة.. الأغاني النوبية.. وكانت فرصة طيبة لكل النوبيين لكي يوصلوا صوتهم عبر هذه الحنجرة الذهبية ضف إلي ذلك أنه أمتاز بأغاني الهجرة و الدفء الإنساني وفراق الأحبة والوطن..
كان لطلت محمد عثمان وردي الأنيقة في مراسم إتمام اتفاقية نيفاشا بمنتجع سمبا السياحي بالعاصمة الكينية نيروبي، وقعاً خاصا في نفوس جماهير الشعب السوداني والساسة وكان في تلك الأثناء قد توصل أبناء الوطن الواحد إلى ما يصبون إليه.. بتوقيع برتوكولات السلام، وكان تواجد وردي في ذلك المحفل تأكيداً صادقاً لوجود الحركتين الثقافية والفنية في قضية وطنية كبري ظلت تشغل العالم ككل ومن هنا دعونا نتوقف معه حول أحاسيسه ومشاعره وهو يعتلي خشبة المسرح ليغني للفرقاء من الشمال والجنوب

مشاركتي في توقيع اتفاقية السلام
ماهي الأحاسيس والمشاعر التي اعترتك وأنت تغني لأبناء الوطن بعد أن توصلوا إلي توقيع برتوكولات سلام نيفاشا خاصة وأن الحرب استمرت لفترة زمنية طولية جداً وصفها المراقبين باطول حروب القرن؟
ـكنت في غاية السعادة وأنا أشارك بالغناء في حفل توقيع اتفاقية السلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان إذ أنها كانت واحدة من الأحلام التي سيطرت علي تفكيري علي مدار السنوات الماضية ،وكنت بأي حال من الأحوال أمني النفس كل الأماني أن تتم مثل هذه الاتفاقيات بين كل الفرقاء من أبناء الوطن الواحد ،حتى نستطيع أن ننميه التنمية التي تدفع به إلي الأمام
وأضاف : ومن هذه المشاركة في هذا العمل الإنساني الكبير أجد نفسي قد ساهمت ممثلاً للحركتين الثقافية والفنية بحكم الانتماء لهما ومشاركتي في الاحتفالات جاءت بطلب من الأستاذ علي عثمان محمد طه النائب الاول لرئيس الجمهورية
الفنون غير قادرة علي الاندماج في السياسة
بكل صراحة ماهي الكيفية التي يمكن أن نجعل بها الحركة الفنية في السودان متوافقة مع الأحداث السياسية في البلاد في ظل التحديات الجسام المحدقة به من كل حدب وصوب وهذا هو الدور المنوط بالحركتين الثقافية والفنية في المشهدين السياسي والاجتماعي؟
طالما أنك طالبتني بالصراحة فإنني سأقول أن الفنون غير قادرة علي الاندماج في هذا الإطار لأنها بأي حال من الأحوال لا تحرك ساكناً من قريب أو بعيد وذلك يعود إلي عدة عوامل من بينها أن المبدعين الحقيقيين تجاوزوا السن التي يمكنها أن تدعهم يفعلون ذلك بالمفهوم الذي ذهبت إليه في سؤالك آنف الذكر وأن كنت أري أن هذا العامل لم يكن السبب الرئيسي لأن هنالك من هم قادرين علي البذل والعطاء بترجمة ما نحن بصدده إلي واقع ملموس ولكن هذه الفكرة تتطلب في المقام الأول والأخير التوافق بين الأطراف المعنية بهذا الأمر،الإ أنه ارجع وأقول إن الأجيال أضحت تواجه فجوة كبيرة جداً ،والمشكلة الكبري أن الأجيال المتعاقبة ظلت تؤكد أنها هي سيدة الموقف في هذه المرحلة أو تلك

التفاعل مع المجريات السياسية
من وجهة نظرك ماهي متطلبات الفنان في المرحلة السياسية المقبلة.. وماهي الأغاني الموجودة في جعبة وردي من أعمال غنائية تحمل طابع الوطنية والسلام؟
ـ علي الفنان أن يكون أكثر تفاعلاً مع ما يدور من حوله حتى يكون مواكباً لمجريات الأوضاع السياسية والاجتماعية ويجب ان يجد التفاعل حتى لايصاب بالإحباط مع ما يحدث، وألا يكون هذا التفاعل لحظياً بقدر مايكون تغيير كامل لما يعتمل في النفوس مما خلفته الفترة الزمنية الفائتة من تهميش لدور الفنان سياسياً واجتماعياً ، وإذا لم تتخلي عن هذه الأفكار فإن الواقع سيظل كما هو لا يبرح هذه الجزئية قيد أنملة
ـ أما بالنسبة للشق الثاني من سؤالك فأقول لك : لقد جسدت هذا الذي تتحدث عنه قبل سنوات وسنوات ولعلكم تذكرون جيداً أنني في العام 1961م كنت قد ترجمت ذلك مع الشاعر الكبير مرسى صالح سراج. بينما تجدنا نحن النوبيين قد تعلمنا الكثير من الإرث والثقافة النوبية التي تركها لنا الآباء والأجداد وهو إرثاً يصب رأساً في هذا الجانب الذي نتحدث فيه، ومع هذا وذاك كنا نفكر تفكيراً عميقاً في الكيفية التي نجعل بها هذا المجتمع ينفعل ويتفاعل مع قضايا وهموم الوطن الكبير وبالمقابل بدأت معنا هذه المرحلة منذ الاستقلال الذي كان في ذلك الوقت حديثاً.
اتجاه الفنان للسياسة كلياً
هل تتفق مع سياسات الأجهزة الإعلامية من ناحية التنوع الفني والثقافي في البلاد خاصة وانك تحمل في معيتك فنون وثقافة ؟ وماذا أنت قائل في الفنان السياسي المباشر؟
ـ الحديث عن الأجهزة الإعلامية يطول ويحتاج منا إلي مساحات أكبر من ذلك بكثير حتى نستطيع أن نشرح الحالة التي نركن لها في الوقت الحاضر لأنني ضد أن نطلق عليها قومية لأنك إذا نظرت إليها بمنظار فاحص ستجدها بعيدة كل البعد عن هذه التسمية التي تتطلب أن تكون هذه الأجهزة قومية بمعني الكلمة حتى تستوعب كل الفنون والثقافات السودانية دون التركيز علي فنون وثقافة الوسط والمراقب لها عن كثب سيجدها لا تخرج عن عباءة السياسات التي تضعها الحكومات المتعاقبة علي حكم البلاد مابين الفينة والأخرى .
وأما فيما يخص رأيي في اتجاه الفنان للسياسة كلياً تجدني لا اتفق مع الفنان الذي ينحو هذا المنحي لأن السياسة في الأساس عبارة عن البحث عن المصالح لا أكثر والفنون تبحث عن معالجة قضايا المجتمع التي تجدها ظاهرة في الأغاني العاطفية الوطنية وأغاني السلام وهي جميعاً يجب أن تنال حظها من البث المستمر لا أن تبث في فترات الاحتفالات بالأعياد لان الأغاني التي تندرج في هذا الإطار ربما تفتقر للمصداقية لأنها تصنع بدون أحاسيس ومشاعر لأنها تهدف إلي مناسبة محددة وتنتهي بانتهاء هذه المناسبة لذلك مثل هذه الأغاني لا تبقي في الذاكرة .
لا أري داعياً لاغاني وأغاني
كيف تنظر إلي برنامج أغاني وأغاني الذي يعده ويقدمه الأديب السر قدور من علي شاشة قناة النيل الأزرق كل عام ؟
بصراحة شديدة لا أري داعياً لوجود هذا البرنامج في الخارطة البرامجية لهذه القناة ويمكن الاستعاضة بدلاً عنه ببرنامج غنائي يفيد المتلقي والفنان معاً فهو قائم علي تقليد الفنانين الصغار للفنانين الكبار الذين استطاعوا إيصال أفكارهم الغنائية في فترات سابقة فأين هؤلاء من إنتاجهم الخاص ولماذا يحاول السر قدور حصر تاريخ الأغنية السودانية في نطاق ضيق .
صواردة والحضارة الضاربة في الجذور
وبالانتقال إلي مرحلة من مراحل وردي أود أن أقف معك بتأمل في فترة الطفولة و الصبا ؟
(القرية) شكلت جزءاً هاماً من حياتي الفنية إذ أنني استفدت مبدئياً من تواجدي في صواردة التي التمست فيها منذ الصغر الحضارة والبساطة التي اجتر منها حتى الآن بدليل أنك ربما لاحظت بصورة مطلقة أنني أترجم الموروث الذي تشبعت به إلي المركز حتى استطاعت هذه الحضارة الضاربة في الجذور من أن تخلق لها أرضية صلبة في ظل التنوع الفني والثقافي الذي يمتاز به السودان .
حضارة النوبي حضارة إنسانية
كيف تمكن وردي من المزج بين الموروث النوبي والموروث في بقاع سودانية أخري وإيصال الفكرة للعامة ؟
وجهات نظر البعض في النوبيين مغلوطة ويجب أن نصحح لهم هذا المفهوم حتى لا يصبح بمرور الزمن مفهوماً سائداً لدي سائر الناس علي اختلاف ألوانهم ولهجاتهم فالمجتمع النوبي مجتمع يحمل ثقافة وموروث قديم يؤكد أن حضارته حضارة إنسانية
عندما تتكلم مع العملاق محمد عثمان صالح وردي تشعر بأن  صوته قادم من خلف الغيوم يشدك اليه رغما عنك فلهذا الصوت سحر يعرفه كل من يجلس اليه ولو كان هذا الجلوس بشكل عابر اذ انك تلتمس فيه روح من التحدي والاصرار على ان يشق عقله وقلبه مكانة في هذا العالم ولاشك  أن موهبته ساعدته كثيرا على تجاوز كل العقبات والمتاريس.
ومن هذا  المدخل وهذه البوابة وجد وردي نفسه في بيئة تحمل بين طياتها الهدوء أي انها اجواء خلاقة للابداع وبما انها كذلك نجدها قد دفعت في نفسياته لاخراج الفن المتغلغل في دواخله وهي تدعوه دعوي صريحة لممارسة هذا الفعل النبيل في كل حركاته وسكناته بينما عيناه ظلتان ترقبان هذا الحلم الجميل وهو يتسع شمالا وجنوبا شرقا وغربا ويتعرف عليه كافة الناس عن قرب.
وردي رغم ميوله لعشق الغناء الا انه كان ناجحا ومتفوقا في دراسته سافر الى القاهرة للدراسة بالأزهر الشريف بدعوة من جده حسن صالح وردي الذي كان يعمل وقتئذ في (سرايا) الملك فاروق وكان ان حط رحاله هناك ردحا من الزمن يتأمل بوعي متفتح الحياة الاجتماعية والفنية والثقافية في تلك المدينة، مدينة العلم والفن والمعرفة المتقدمة  في ادق صورها من حيث الابحاث والدراسات المتخصصة  وبالتالي استفاد وردي كثيرا من هذه الاجواء وذلك لاقترابه منها بشكل مبدئي مما اضاف الى اهتمامه بالغناء الشعبي  في منطقة (السكوت) ليتعامل مع الة الطنبور وقبلها صفارة الخشب وهو صغير السن ومن هذه النقطة بالتحديد دعونا نقف بتأمل مع هذا الهرم الغنائي ونقلب معه صفحات وصفحات من تاريخه.
الموروث النوبي في شمال السودان
وردي عالمك خاص ..حالاتك مميزة .. لغتك مميزة ايضا خاصة وأنك عملت في مجال التدريس الذي كنت فيه انسانا مبدعا مليئا بالدهشة والخفايا والاسرار لذلك هل تشرح لنا احاسيسك ومشاعرك وأنت تحقق حلمك.؟
كنت في غاية الابتهاج والسعادة وقتما وجدت جزءا من حلمي بدأ يتحقق ولكن حبي لأهلي ووطني جعلني أعود من القاهرة مشحونا باشجان  النغم الأصيل ومن هنا ودونما اشعر تعمقت في أغنيات الفلكلور والتراث الشعبي وقد نهضت من وراء ذلك فنيا  متمسكا في نفس الوقت بعملي في مجال التدريس وكانت محاولاتي الغنائية الأولي هي (ياطير يا طاير) أو كما اطلق عليها أنا أسم (الحب والورود) وهي الأغنية التي صاغ لي كلماتها رفيق الدرب الشاعر الراحل اسماعيل حسن ووضع لها الالحان الاستاذ خليل احمد الى جانب انني قدمت آنذاك (الليلة يا سمرة) التي استفادت من الموروث الغنائي النوبي في شمال السودان
ثم تلتها (ليالي اللقاء)  التي وثقت لها بالاذاعة السودانية وبعد هذه الاطلالة بدأت الشائعات تطاردني حيث قيل انني لن أعود الى معقل رأسي مرة أخري والخ.
هل في الامكان ان ترسم لنا خارطة للتمرد الذي مارسته للانفلات من التقليدية التي كانت تركن لها الحركة الفنية في السودان؟
بكل بساطة اختصرت المسافات بطرح الجديد من الافكار المبتكرة التي تحمل في حناياها مضمونا ومعني عميق  حيثما ان تلك الفترة  كانت تتسم بالتقليدية وتمر عليها السنوات وهي باقية في النقطة  التي انطلقت منها لذلك استطعت ان اتجاوز هشاشة الساحة الفنية بكل سهولة مستقلا ذاتيا بالوجود الدائم بالاعمال الجديدة التي كانت ومازالت تجد طريقها بصورة مباشرة الى قلوب الجماهير فكانت عندي تشبه الى حد ما الزلزال الذي احدث تغيرا في المحيط الغنائي بصورة عامة وتمحورت بعيدا عن عناصر هذا التكوين القابع في مكانه وبالمقابل تمكنت  من احداث نقله نوعية في الحركة الفنية التي رسمت فيها تاريخا جديدا بادوات غرس الاحاسيس والمشاعر الصادقة وبتميز في التجديد والتنوير وبالتالي عمدت الى ان اغوص في عوالم لا يستطيع غيري التطرق لها في اختيار النصوص ووضع الالحان وطريقة الاداء فكنت بهذه الطريقة كلما طرحت عملا جديدا كان بالنسبة لي اضافة الى رصيدي الفني الذي اصبحت أكتسب وفقه جمهورا جديدا وخبرة قوننتها  في الانتقال من مرحلة الى أخري لانني كنت اهدف الى النجاح وحب واحترام وثقة الجمهور.
كنت أسبح في الاتجاه الصحيح
ماهي الصورة التي استطعت ان تجسدها في المخيلة لكي تستوعب درس النجاح جيدا خاصة وأنك تذوقت مرارته وحلاوته وهل يمكن ان تحدد لنا باختصار  موقع الكلمات ذات المعاني السياسية المعقدة في جمل لحنية رائعة ومتميزة؟
النجاح الذي حققته عملت له في هدوء تام لأنه اشعرني بأنني كنت محمولا على ريح بجناحيها لاتدور في بحر من الفراغ لا لاشيء فقط كنت اسبح في الاتجاه الصحيح. ومع هذا  سعيت سعيا حثيثا لتجويد فني لأنني لم أكن أعرف سوي النجاح  الذي يغري احساس أي فنان يقدر ويحترم نفسه وجمهوره وفنه وبالبذل والعطاء وحدهما استطعت الاندماج في ايقاع الفن المتطور المتزن الذي اكسبته ايقاع العنفوان الجارف.
أما حينما اجيب على السؤال الثاني فأقول لك كنت اختار  النصوص  الموحية بنزعة السمة التبشيرية والوعظية التي تساعد  في عملية  التغيير وقد صادفت الى جانب أغنياتي أغنيات  الفنان محمد الأمين انتشارا وتفاعلا من قبل الجماهير المتعطشة  لهذه اللونية الجديدة من الغناء وهي ملأت الثقة في نفسي وضاعفت من حبي وعشقي للفن الذي بدأت فيه مرحلة جديدة من تاريخ الأغنية السياسية واصبح المجال اوسع وكنت الأول فيها بتقديم  اجمل واروع الالحان.
مواصلة النضال الثوري ضد النميري
وبما اننا نتحدث عن تعبير الفنان الحالة السياسية  الماثلة امامه ماذا بعد اخفاق الثورة التصحيحية للثورة المايوية في العام 1971 والتي تم اعتقالك على خلفيتها لمدة تزيد عن العام؟
عندما اخلي سبيلي من طرف جهاز  الأمن في ذلك  الوقت توصلت الى استنتاج نهائي هو مواصلة النضال الثوري ضد نظام حكم الرئيس الراحل جعفر محمد نميري ومهما  كلفني هذا النضال من ثمن الشيء الذي قادني الى ان اشن هجوما كاسحا بالكلمات التي كتبها لي الشاعر الكبير محجوب شريف الأمر الذي حدا برجال جهاز الأمن القومي وضعي على لائحة المغضوب عليهم ولكل هذه المستجدات استمرت الرقابة الأمنية حتي ان حالتي المادية أخذت تسوء يوما تلو الاخر للدرجة التي طردوا فيها ابنائي من  المدارس وهم صباح وحافظ وحسن وعبد الوهاب ومظفر وجوليا لانني كنت غير قادرا على تسديد الرسوم الدراسية بجانب ذلك منعت من الاطلالة عبر الأجهزة الاعلامية (الاذاعة والتلفزيون) واصبح الناس يهابون غضب السلطة المايوية فلا أحد منهم يتعاقد معي لاحياء حفلات الاعراس الخاصة بهم ما استدعاني الى ان أغني لاصدقائي ومعارفي الأغنيات التي كنت اغنيها لمايو في بداية عهدها عندما كنت مؤمنا باهدافها فاحتفظت بالشكل وغيرت المضمون أي أنني احتفظت باللحن وغيرت الكلمات وهذا يعني ان مايو مثل نوفمبر خيبت امال وتطلعات الجماهير وكان لابد  من ثورة تعيد الديمقراطية التي اغتصبها الحكم العسكري واصبحت ناغما على النظام المايوي احس بالآم هذه الأمة ومعاناتها خاصة وأنني التمست احزانها وتعطشها للحرية وقناعتي ان الحرية لا تعطي  بقدر ما انها تنتزع.
هل مع تصاعد وتيرة الاحداث السياسية في البلاد وانشغالك بها اغفلت انتاج الأغاني العاطفية بعد ان اخذك الرئيس  الراحل النميري لسجن كوبر الذي ظللت فيه حبيسا لفترة من الزمن؟
الدلالة على أنني وفقت بين الأغاني السياسية والعاطفية رغماً عن التطورات والمتغيرات التي دخلت حياتي الفنية .. قدمت العديد من الأغنيات العاطفية (الود) في العام 1970م و (قلت ارحل ) في العام 1972م و (واسفاي) في العام 1973م و(بناديها ) في العام 1974م و(الحزن القديم) في العام 1976م و(الوتر مشدود) في العام 1980م . كما أنني قدمت اغاني وطنية حظرت من جهاز أمن الدولة وهي (وطنا – عرس الفداء) وعندما طرحت أغنية (جميلة ومستحيلة) للشاعر محجوب شريف كانت بالنسبة ليّ مرحلة نضوج واستقرار .. لتبقي تجربتي مع هذا الشاعر لا شبيه لها في التجارب الغنائية التي خضتها . لأنه كان الأقرب ليّ فكرياً وعاطفياً وسياسياً .. لذلك استطعنا أن نحقق سوياً مالم يستطيع تحقيقه أي فنان وشاعر في التاريخ العاطفي والسياسي في السودان.
{ وئدت صناعة الأغنية السودانية:
من المعلوم ان محجوب شريف بدأ كتابة الشعر الثوري في 25 مايو 1969م وهو تاريخ قدوم تحالف القوى الإشتراكية من الشيوعيين القوميين العرب للحكم في السودان وكان أن كتب لك (ياحارسنا وفارسنا ) فما هي المميزات التي امتازت بها قصائده ؟
كانت القصائد التي صاغها ليّ الشاعر الكبير محجوب شريف قادرة على أداء الوان وفنون غنائية متعددة وباحساس بالغ الشعر حتى الآن ولكن كانت الصدمة كبيرة بالنسبة لي والمحجوب بعد التطورات التي حدثت من الرئيس الراحل جعفر محمد النميري بتخليه عن تحالفه مع الشيوعيين .. ولكل هذه العوامل جعلتني أكثر الناس سعادة .. لانها في المقام الأول والأخير جمعتني باعظم شاعر في تجربتي الغنائية عاطفياً وسياسياً ألا وهو الشاعر محجوب شريف الذي لعب دوراً كبيراً في صناعة الأغنية السودانية التي وئدت من الكثيرين .. ولكنه كان يحييها في الدواخل بالمفردات الجميلة المعبرة . لأنها شكلت مرحلة جديدة في حياتي الفنية ومسحة وطنية عميقة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني ومن هذه الأغنيات كانت أغنية أو نشيد (لهب) والتي تقول :
ياشعباً لهبك ثوريتك
تلقي مرادك والفي نيتك
وعمق إحساسك بي حريتك
يبقي ملامح في ذريتك.
{ الثورة المايوية اعز من الشيوعيين:
كيف كانت القصائد السياسية قادرة على اداء الوان وفنون غنائية متعددة والصراع قد أحتدم في العام 1971م . وما هي الأغاني العاطفية التي جمعتك مع الشاعر محجوب شريف في ظل تلك الأجواء الملغومة.
وصل الأمر بالثورة المايوية في ذلك الوقت إلى إعدام المدنيين والعسكريين وهم عبدالخالق محجوب السكرتير العام والشفيع أحمد وجوزيف قرنق كادر الشيوعيين في الجنوب والمقدم بابكر النور والمقدم أبو شيبة والمقدم عبدالمنعم محمد احمد والرائد هاشم العطا وغير هم من الضباط الذين نفذوا إنقلاب 19 يوليو 1971م وفي مارس قتل الإسلاميين والأنصار في ود نوباوي والجزيرة أبا . قتل محمد صالح عمر زعيم الإسلاميين والهادي المهدي امام الأنصار . وفعل نفس الشيء . في 22 يوليو 1971م ضد الشيوعيين أنفسهم لهذا كرهت النظام المايوي .. وفي عز هذا السفك للدماء أهداني الشاعر محجوب شريف أربعة أغنيات عاطفية (أنا مجنونك – مراسي الشوق – السنبلاية – وردة صبية) وهي أغاني لها وقع خاص في قلبي بالإضافة إلى (عصافير الخريف) للشاعر المتميز اسحق الحلنقي و (الطير المهاجر) للشاعر الرائع صلاح أحمد إبراهيم .
{ إسماعيل حسن وأول حالة رفض في الحب:
لماذا تقدم دائماً أغنية (نور العين) للشاعر إسماعيل حسن في بداية أي حفل تحييه داخل وخارج السوداني؟
هي من الأغنيات الحبيبة إلى نفس وإلى جمهوري ..وهي تجربة تمثل عندي مرحلة هامة في حياتي الفنية والإنسانية والجماهيرية .. المهم أن (نور العين ) تبقي ذات وقع خاص لذلك دائماً ما اختارها لتكون الأغنية الأولى التي اشدو بها ..وهي التي تفسح الطريق أمام رؤية الحق والخير والجمال ومنذ فجر التاريخ غني الإنسان لعيون الغزلان والمها والريل ..وهي مدخل للحضارة والرقي بعد البداوة والخشونة .. ويكفي ان شاعرها إسماعيل حسن جاء بأول حالة رفض في دنيا الحب بأغنية ( بعد أيه) وهي أيضاً من الأغاني المقربة إلى إسماعيل حسن وليّ شخصياً لأن هذه الحالة كانت معروف عنها الإستسلام والاستكانة تماماً للمحب والخضوع التام رغم كل ما يأتي منه وهكذا تواصلت الثنائية بيني والشاعر الراحل اسماعيل حسن لتشكل أعماله طابع في تاريخ الفن السوداني . فكانت مثلاً أغنياتي (الحب والريدة) و(بيني وبينك والأيام) و(الحنين يافؤادي) و (القمر بوبا ) و(الوصية ) و ( ياسلام منك انا آنه ياسلام) و(أنا مابنساك) وجاءت بعد هذه المرحلة مرحلة الشاعر المبدع عمر الطيب الدوش في أغنية (بناديها ) والتي قال فيها :
بناديها وبعزم كل زول يرتاح
على ضحكة عيون فيها
واحلم أني في أكوان
بترحل من مراسيها
عصافير تنبت جنحات
وطارت للغيوم بيها.
مسافر من فرح . لي شوق
ونازل في حنان ليها.
{ نشأة وردي والتعليم والفن:
{ كيف النشأة وكيف كان الانتقال من القرية إلى المدينة .. ومن هم الشعراء الذين تعاملت معهم في هذه المسيرة الطويلة؟
نشأت في كنف جدتي والدة أبي نعمة على بلال إذ توفيت والدتي بتول احمد بدري وأنا مازلت رضيعاً وقد عرفت والدتي – عليها الرحمة بفصاحة اللسان والقدرة على التحدث باللغة العربية الفصحى وتأليف الشعر وإجادة المديح حتى لقبت بـ (بتول المادحة) كما كانت تمتلك قدرة مذهلة على الحفظ .. وعندما أخذت والدي لعبرى من أجل الدراسة كان وقتئذ السفر بـ(الحمير) حيث أنه كان شاقاًَ ومتعباً وعندما يدرك الإرهاق المسافرين ويأخذون قسطاً من الراحة كنت اغني لهم فكان الوالد – عليه لرحمة – يقول : (الود ده ما حينفع في المدرسة أحسن نرجع بيهو)لكنني رغماً عن عشقي للغناء إلا أنني تفوقت في دراستي حتى أصحبت معلماً . وقد درست الأولية بعبري والوسطى في حلفا .. فيما تلقيت كورساً بكلية المعلمين بمدينة شندي . بعده شددت الرحال إلى مدينة الخرطوم .. وكان أن تنقلت معلماً بين مدارس (نلوته) و(فركه) و(صوارده) التي أوقف فيها مدير مدرستها راتبي لتغيبي عن العمل لإلتزامي باحياء حفلات الأعراس.
اما الشعراء الذين تعاملت معهم . فهم إسماعيل حسن ومحجوب شريف وعمر الطيب الدوش واسحق الحلنقي ومحمد علي أبوقطاطي ومحمد يوسف موسى وسيد أحمد الحردلو وصلاح أحمد إبراهيم وصديق مدثر وأبو أمنه حامد والتجاني سعيد وصادق عبدالكافي وصالح مرسي سراج الدين ومحمد مفتاح الفيتوري وآخرين.

ليست هناك تعليقات:

azsuragalnim19@gmail.com

*الدكتور أسامة عطا جبارة يشرح الإقتصاد السوداني في ظل الحرب*

..........  *تواصل شبكة (أوتار الأصيل) الإخبارية، وصحيفة العريشة الرقمية نشر الحوار الهام مع الخبير في الإقتصاد العالمي الدكتور أسامة عطا جب...