من سراج النعيم النعيم في 16 أكتوبر، 2011 في 12:20 مساءً ·
لقد
بسطنا كيف تناول القرآن الشعر فلم نعد نحتاج للاستفاضة في موقف الرسول ـ
صلى الله عليه وسلم ـ من هذا الفن إذ أنه موقف القرآن عينه ، اللهم إلا إذا
أوردنا آثارا من السنة تشرح وتعضد موقف التنزيل ، فلم يكن ـ عليه الصــلاة
والسلام ـ نابذا للشعر ولا مجافيا له ولكنه وجهه وأنار سبيل سالكه وكان
يقول " الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيــحه كقبيح الكلام "[14]
وكان يسمع الشعر ويثيب عليه ويستنشد حسان هــجوه لقريش ويقول له " أهجهم
وروح القدس معك " كما استمع لشعر كعب بن زهير وخلع عليه وأصغـى بانتباه إلى
أبيات من شعر أمية ابن أبي الصلت بلغت المائة بيت في موقف واحد [15] ولعل
المـواقف التي أشاد فيها الرسول بالشعر أكثر من المـواقف التي ذمــه فيها ،
وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا ودما خير له
من أن يمتلئ شعرا "[16] كما ورد عنــه في سياق الذم قوله عندما ذُكر امرؤ
القيس " ذاك أشعر الشعراء وقائدهم إلى النار " وقد تــكون وراء هاتين
القولتين رؤية تتجاوز الشعر إلى موضوعه ففحش امـرئ القيس واستهتاره ،
وامتلاء صدور الرواة بالشعر بحيث لا يترك للقرآن والكلِم الطيب موضعا أمور
لا يحبذها الله ولا رسوله، ولا نذهب بعيدا مع من يقول إن الرسول نظم بيتا
أو بيتين يـوم الطائف ويوم حنين ولكننا نقول : إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
لم يزن الشعر وإنما أحرز معناه " وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلا كسر
وزنه كإنشاده لبيت العباس بن مرداس السلمي
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقـــــرع وعيينة[17
وكان ربما أنشد البيت المستقيم في النادر كإنشاده لبيت ابن رواحة
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع "[18
وتكسير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأكثر من بيت من الشعر إنما هو مصداق قوله تعالى " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " إذ " في الآية دفع لشبهة الظن أن الرسول الكريم قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشعر"[19
إذن فالنبي الكريم لم يرفض الشعر وإنما رفض منه شعر الشعراء المجان الذين يـهدمون القيم الفضلى ، ذلك ما يؤكده استحسانه لقريض حسـان وكعب وعبد الله ابن رواحة ممن أذاعوا في شعرهم قيم الإسلام وتعاليمه واتخذوا ألسنتهم مجنا واقيا له ودرعا دلاصا تحميه من سموم ألسنة الأعداء وحدتها ، وقد نظر خلفاء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الشعر نفس النظرة بل إن من بينهم من تناول الشعر بالنقد ووازن وفاضل بين الشعراء وأصدر أحكاما نقدية ما زالت تدرس إلى اليوم في الجامعات المختصة [20
قال اهل الاختصاص في هذا الشأن: لعل تحريم الغناء الذي يرفد الشعر ويستدعيه و ابتعاد الشعراء عن جداول اختيار الذائقة الـجاهلية وتورعهم عن منظومة تلك الجداول الأخلاقية من غزل وخمرة وافتخار ببذل المـال في الميسر وعند الحانات،إضافة إلى انصراف بعضهم إلى المنافحة عن الدين وإظهار خيريته في شعر لا تفوح منه النكهة التي طبعت إنتاج الشعراء الجاهليين الخلص الذين سار شعرهم وحلق ،كل ذلك دفع بعض النقاد إلى القول :إن الشعر قد ضعف في أيام الرسول وخلفائه مؤسسا بذلك للقول "الشعر نكد بابه الشر فإذا دخل في الخير ضعف ويسوق هؤلاء حـججا يرونها كافية لإثبات دعواهم منها
* انشغال المسلمين بالقرآن وانصرافهم إلى التأمل في مضــامينه وفلسفته وانبهارهم بجماله الفني وأسلوبه الفريد، ذلك الأسلوب الذي انتزع منهم آذانهم وقلوبهم فوقفوا " يتأملونه وكأنهم نظروا إلى إنتاجهم نظرة فاحصة فوجدوه باهتا خافتا أمام وهج طريق الإسلام غير طريق الشعر ومذهــبه غير مذهبه فالشعراء أكثر قولهم عصبية وفخر وذم وغزل فاحش مما نهى عنه الإسلام وشجبه. وعن التنافر المذكور بين الإسلام والشعر يقول الثعالبي إنه " كان لحسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ شيطان في الجاهلية ينفث على لسانه شعرا قويا من مثل قوله
أولاد جــفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الكريم المفضل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم شم الأنوف من الطراز الأول
لقد أراد الإسلام للشعر أن يشارك في معــركة البناء وأن يصدح بفضائل النفس البشرية من عقل وعفة وعدل ، مساهمة في تزكيتها من رعونات الأهواء وتلوينها بقيم الخلق والعفاف ، ولم يكن الدين يضع حظرا على السمات الفنية للشعر وإن فضل عدم الغلو في الوصف وتـحرى البساطة والصـد ق ، وهذا ما دفع بعض النقاد إلى القول : إن الجمال في الإسلام قيمي وموضوعي لا يـهتم بالشكل والصورة، ويوضح الدكتور عماد الدين خليل هذا التصــور قائلا " إن الإسلام لا يسِم بالقبح ما هو جميل بذاته ولكنه يــذهب إلى مـا وراء المظهر الجميل ويتجاوز (الديكور) الخارجي للشيء المتزين ،ذلك الديكور الذي كثيرا ما يكون مــصيدة يُحتال بها على الذين تخدعهم ظواهر الأشياء
لقد أدرك حملة الإسلام من الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ قدرة الشعراء علــى التأثير في الرأي العام بما يرسلونه من قصائد تسيل على ألسنة الرواة وتخـتمر في أذهان الناس أخلاقا وسلوكا فأمروا بحفظ الشعر والتخلق بما يرشد إليه من فضــائل الأخلاق وقد جاء في الأغاني أن عمر بن الخطاب كتب للمغيرة بن شعبة وهو وال على الكوفة أن " استنشد من قِبلك من شعراء مصرك مـا قالوه في الإسلام " فأرسل المغيرة إلى الأغلب العجلي فاستنشـده فقال
يرى يعض الدارسين أن نهـضة الشعر استمرت وأنه لم يضعف في فجر الدعوة وأن الإسلام ليس مدعاة للين الشعر وضعفه ، يقول ابن خلدون " إن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طـبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهليين.... فإنا نرى شعر حسان ابن ثابت وعـمر بن أبي ربيعة والحطيئة ... أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة وعنترة "[34] وما ذلك إلا لأن القرآن والحديث ألانا طباع القوم وملكاتهم ، وإذا كان ثمة ضعف فإنه بدأ قبل الإسلام إذ انقــضى عصر الفحول ولم يبق منهم إلا الأعشى الذي ما ت وهو في طريقه إلى النبي ليمدحه ويعــلن إسلامه أو لبيد الذي كان قد بلغ السنين "[35] وإذا سلمنا ـ جدلا ـ أن الشعر قد ضعف في بعض البيئات حيث لان وهان شعر الأوس والخزرج فاستخذ ى شعر حسان عما كان عليه في الجاهلية وتعللنا بنزول القرآن بين ظهراني ذلك المجتمع فلامناص من الإقرار بأن الإسلام قد غرس فسيل الشعر في بيئات غير شاعرة كبيئة مكة حيث صار لقريش شعراء معدودون أفرزتهم مشاعرات المسلمين والمشركين منهم عبد الله بن الزبعرى وأبو سفيان بن الحارث ... " والذي قلل شعر قريش أنه لم تكن بينهم نائرة (حقد) ولم يحاربوا ، ولكن عداءها للمسلمين أثار شياطين شعرها وأنطقها
القول بأن طــريق القرآن غير طريق الشعر ليس على إطلاقه فقد نهى الإسلام عن بعض ألوان الشعر وشجع على البعض ، وإذا كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قتل بعض الشعراء فقد عفا عن البعض الآخر وقربه ولم يكن الشعر مرد العقوبة وإنما سببها ما اقترفوه من جرائم وما أطلقوه من قول ماجن وخليع [37] والضـعف والقوة مردهما إلى موهبة الشاعر وطبيعته وعاطفته " وكما تنفعل الــنفوس بعوامل الشر تنفعل بعوامل الخير وقد يكون انفعال الشاعر بحب الرسول ـ عليه الصلاة والسـلام ــ مثلا أشد وأقوى من انفعال شاعر بحب غادته اللعوب|[38]، وأما قول الثعالبي ـ الآنف ـ إن شعر حسان ضعف واستخذى في الإسلام ، فليس مسلما إذ يرى كثير من النقاد أنه ـ على العكس من ذلك ـ قد قوي وسلس وأن فحولته لم تفارقه"[39] ومما يستطرد هنا قصة الأصمعي مع أبي حاتم حيث قال الأول " حسان أحد فحول الشعراء ، قال أبو حاتم : له أشعار لينة ، قال الأصمعي : تنسب له أشياء لا تصح عنه حجة اشتغال المسلمين بالجهاد مردودة، فالجهاد رفد الشعر وأمده بالموضوعات والمعاني الجديدة التي لم يعرفها سكان الجزيرة العربية من قبل
كون النبي لم يدن الشعراء من مجلسه ليس بصحيح فقد قرب حسان وابن رواحة والكعبين وعباس بن مرداس واستمع إلى شعر وفد تـميم واستنشد شعر أمية وعنترة وحاتم الطائي ... وكما سمع الرسول الشعر سمعه أصحابه واحتفوا به وأنكروا عزوف الناس عنه ،فهذه أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ تقول "مر الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ بمجلس لأصحاب النبي وحسان ينشدهم وهم غير آذنين لما يسمعون من شعره فقال "مالي أراكم غير آذنين لابن الفُريعة ؟ لقد كان ينشد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيحسن استماعه ويجزل عليه ثوابه ولا يشتعل عنه"[41] ، وحين بلغ التابعي سعيد بن جبيرـ رضي الله عنه ـ أن ناسا بالعراق يكرهون الشعر قال : نسكوا نسكا أعجميا .[42] وقد سأل أبو موسى الأشعري لبيدا عن الشعر فقال : ما قلت شعرا منذ سمعت الله ـ عز وجل ـ يقول "ألم ذلك الكتاب لاريب فيه " وعلى هذه القصة يعلق ابن العربي قائلا "وهذه الآية ليست من عيب الشعر، كما لم يكن قوله تعالى {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }[43] من عيب الكتابة ؛ فلما لم تكن الأمية من عيب الخط كذلك لا يكون نفي النظم عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عيب الشعر "[44] على أن في مسألة اعتزال لبيد للشعر نظر لدى بعض مؤرخي الأدب حيث يقول طه حسين " وأكبر ظني أن لبيدا أعرض عن الشعر في الإسلام فلم يتخذه صناعة ولم يكثر من إنشائه وإنشاده وانصرف عنه إلى القرآن ، ولكنه قال في الإسلام غير بيت "[45
وعن وضعية الشعر في صدر الإسلام يقول الدكتور شوقي ضيف " ... ومن يرجع إلى كل هذه الـمصادر يستقر في نفسه أن الشعر ظل مزدهرا في صــدر الإسلام وليس بصحيح أنه توقف أو ضعف كما ظن ذلك ابن خلدون "[46] وفي رأي شوقي ضـيف هذا يشاطره كل من الدكتور عمر فروخ والدكتورة بنت الشاطئ وغيرهما
والآن وقد تبين لنا مدى الخلاف بين الفريق الذي يزعم أن الإسلام ينـفي الشعر والفريق الذي يجزم أن الإسلام يقتضي الشعر فهل يجوز أن نقرر أن هناك نقطة تلاق حتمية؟
إن من يتأمل آراء الفريقين يصل إلى أنهما متقاربان في الطرح فالإسلام ينفي ويلفظ الشعر الفاحش الذي يركب المبالـغة والكذب ويدعو إلى الغواية والشر، وبالمحصلة فإنه يقتضي ويطلب الشعر الذي يحث على الفضيلة ويغرس قيمها ويسمو بالنفس إلى تمثل مكارم الأخلاق زارعا روح الألفة نائيا عن كل ما يقوض فضيلة الانسجام في المجتمع الإسلامي ، فحين بلغ كعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ قوله من قصيدته المشهورة " بانت سعاد " لا يقع الطعــن إلا في نـحورهم وما لهم عن حياض الموت تهليل
نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى من عنده من قريش كأنما يقول : اسمعوا. حتى قال كعب
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ضرب إذا عــرد السود التنابيل
يعرض بالأنصار لغلظتهم ـ كانت ـ عليه ، فأنكرت قريش ذلك وقالوا : لم تمدحنا إذ هجوتهم ولم يقبلوا منه ، حتى قال
من ســــره كرم الحياة فلا يزل في مقنب من صـــالح الأنصار
يتطــهرون كــــأنه نسك لهم بدمــاء مــن علقوا من الكفار
فلو لم يدرك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومِن ورائه المهاجرون مدى تأثير الشعر في قلوب العرب لما تألفوا الأنصار بشعر كعب
إذن؛ فصوت الشعر لم يخفت ، والشعراء لم يستقيلوا وإنما خضعوا لمجريات الحياة الجديدة التي رسم الإسلام ملامحها الاجتماعية والسياسية والثقافية وجسد القرآن مستواها الإبداعي ،ذلك المستوى الذي أذهل سدنة الفصاحة وأدهش صاغة الشعر فطفقوا يصلون في محرابه بعد أن رأوا إبداعهم الشعري باهتا خافتا أمام نصاعة القرآن والقه وخرجوا من تيه التوجس والاحتراس إلى فضاء التحسس والاقتباس
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقـــــرع وعيينة[17
وكان ربما أنشد البيت المستقيم في النادر كإنشاده لبيت ابن رواحة
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع "[18
وتكسير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأكثر من بيت من الشعر إنما هو مصداق قوله تعالى " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " إذ " في الآية دفع لشبهة الظن أن الرسول الكريم قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشعر"[19
إذن فالنبي الكريم لم يرفض الشعر وإنما رفض منه شعر الشعراء المجان الذين يـهدمون القيم الفضلى ، ذلك ما يؤكده استحسانه لقريض حسـان وكعب وعبد الله ابن رواحة ممن أذاعوا في شعرهم قيم الإسلام وتعاليمه واتخذوا ألسنتهم مجنا واقيا له ودرعا دلاصا تحميه من سموم ألسنة الأعداء وحدتها ، وقد نظر خلفاء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الشعر نفس النظرة بل إن من بينهم من تناول الشعر بالنقد ووازن وفاضل بين الشعراء وأصدر أحكاما نقدية ما زالت تدرس إلى اليوم في الجامعات المختصة [20
قال اهل الاختصاص في هذا الشأن: لعل تحريم الغناء الذي يرفد الشعر ويستدعيه و ابتعاد الشعراء عن جداول اختيار الذائقة الـجاهلية وتورعهم عن منظومة تلك الجداول الأخلاقية من غزل وخمرة وافتخار ببذل المـال في الميسر وعند الحانات،إضافة إلى انصراف بعضهم إلى المنافحة عن الدين وإظهار خيريته في شعر لا تفوح منه النكهة التي طبعت إنتاج الشعراء الجاهليين الخلص الذين سار شعرهم وحلق ،كل ذلك دفع بعض النقاد إلى القول :إن الشعر قد ضعف في أيام الرسول وخلفائه مؤسسا بذلك للقول "الشعر نكد بابه الشر فإذا دخل في الخير ضعف ويسوق هؤلاء حـججا يرونها كافية لإثبات دعواهم منها
* انشغال المسلمين بالقرآن وانصرافهم إلى التأمل في مضــامينه وفلسفته وانبهارهم بجماله الفني وأسلوبه الفريد، ذلك الأسلوب الذي انتزع منهم آذانهم وقلوبهم فوقفوا " يتأملونه وكأنهم نظروا إلى إنتاجهم نظرة فاحصة فوجدوه باهتا خافتا أمام وهج طريق الإسلام غير طريق الشعر ومذهــبه غير مذهبه فالشعراء أكثر قولهم عصبية وفخر وذم وغزل فاحش مما نهى عنه الإسلام وشجبه. وعن التنافر المذكور بين الإسلام والشعر يقول الثعالبي إنه " كان لحسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ شيطان في الجاهلية ينفث على لسانه شعرا قويا من مثل قوله
أولاد جــفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الكريم المفضل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم شم الأنوف من الطراز الأول
لقد أراد الإسلام للشعر أن يشارك في معــركة البناء وأن يصدح بفضائل النفس البشرية من عقل وعفة وعدل ، مساهمة في تزكيتها من رعونات الأهواء وتلوينها بقيم الخلق والعفاف ، ولم يكن الدين يضع حظرا على السمات الفنية للشعر وإن فضل عدم الغلو في الوصف وتـحرى البساطة والصـد ق ، وهذا ما دفع بعض النقاد إلى القول : إن الجمال في الإسلام قيمي وموضوعي لا يـهتم بالشكل والصورة، ويوضح الدكتور عماد الدين خليل هذا التصــور قائلا " إن الإسلام لا يسِم بالقبح ما هو جميل بذاته ولكنه يــذهب إلى مـا وراء المظهر الجميل ويتجاوز (الديكور) الخارجي للشيء المتزين ،ذلك الديكور الذي كثيرا ما يكون مــصيدة يُحتال بها على الذين تخدعهم ظواهر الأشياء
لقد أدرك حملة الإسلام من الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ قدرة الشعراء علــى التأثير في الرأي العام بما يرسلونه من قصائد تسيل على ألسنة الرواة وتخـتمر في أذهان الناس أخلاقا وسلوكا فأمروا بحفظ الشعر والتخلق بما يرشد إليه من فضــائل الأخلاق وقد جاء في الأغاني أن عمر بن الخطاب كتب للمغيرة بن شعبة وهو وال على الكوفة أن " استنشد من قِبلك من شعراء مصرك مـا قالوه في الإسلام " فأرسل المغيرة إلى الأغلب العجلي فاستنشـده فقال
يرى يعض الدارسين أن نهـضة الشعر استمرت وأنه لم يضعف في فجر الدعوة وأن الإسلام ليس مدعاة للين الشعر وضعفه ، يقول ابن خلدون " إن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طـبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهليين.... فإنا نرى شعر حسان ابن ثابت وعـمر بن أبي ربيعة والحطيئة ... أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة وعنترة "[34] وما ذلك إلا لأن القرآن والحديث ألانا طباع القوم وملكاتهم ، وإذا كان ثمة ضعف فإنه بدأ قبل الإسلام إذ انقــضى عصر الفحول ولم يبق منهم إلا الأعشى الذي ما ت وهو في طريقه إلى النبي ليمدحه ويعــلن إسلامه أو لبيد الذي كان قد بلغ السنين "[35] وإذا سلمنا ـ جدلا ـ أن الشعر قد ضعف في بعض البيئات حيث لان وهان شعر الأوس والخزرج فاستخذ ى شعر حسان عما كان عليه في الجاهلية وتعللنا بنزول القرآن بين ظهراني ذلك المجتمع فلامناص من الإقرار بأن الإسلام قد غرس فسيل الشعر في بيئات غير شاعرة كبيئة مكة حيث صار لقريش شعراء معدودون أفرزتهم مشاعرات المسلمين والمشركين منهم عبد الله بن الزبعرى وأبو سفيان بن الحارث ... " والذي قلل شعر قريش أنه لم تكن بينهم نائرة (حقد) ولم يحاربوا ، ولكن عداءها للمسلمين أثار شياطين شعرها وأنطقها
القول بأن طــريق القرآن غير طريق الشعر ليس على إطلاقه فقد نهى الإسلام عن بعض ألوان الشعر وشجع على البعض ، وإذا كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قتل بعض الشعراء فقد عفا عن البعض الآخر وقربه ولم يكن الشعر مرد العقوبة وإنما سببها ما اقترفوه من جرائم وما أطلقوه من قول ماجن وخليع [37] والضـعف والقوة مردهما إلى موهبة الشاعر وطبيعته وعاطفته " وكما تنفعل الــنفوس بعوامل الشر تنفعل بعوامل الخير وقد يكون انفعال الشاعر بحب الرسول ـ عليه الصلاة والسـلام ــ مثلا أشد وأقوى من انفعال شاعر بحب غادته اللعوب|[38]، وأما قول الثعالبي ـ الآنف ـ إن شعر حسان ضعف واستخذى في الإسلام ، فليس مسلما إذ يرى كثير من النقاد أنه ـ على العكس من ذلك ـ قد قوي وسلس وأن فحولته لم تفارقه"[39] ومما يستطرد هنا قصة الأصمعي مع أبي حاتم حيث قال الأول " حسان أحد فحول الشعراء ، قال أبو حاتم : له أشعار لينة ، قال الأصمعي : تنسب له أشياء لا تصح عنه حجة اشتغال المسلمين بالجهاد مردودة، فالجهاد رفد الشعر وأمده بالموضوعات والمعاني الجديدة التي لم يعرفها سكان الجزيرة العربية من قبل
كون النبي لم يدن الشعراء من مجلسه ليس بصحيح فقد قرب حسان وابن رواحة والكعبين وعباس بن مرداس واستمع إلى شعر وفد تـميم واستنشد شعر أمية وعنترة وحاتم الطائي ... وكما سمع الرسول الشعر سمعه أصحابه واحتفوا به وأنكروا عزوف الناس عنه ،فهذه أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ تقول "مر الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ بمجلس لأصحاب النبي وحسان ينشدهم وهم غير آذنين لما يسمعون من شعره فقال "مالي أراكم غير آذنين لابن الفُريعة ؟ لقد كان ينشد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيحسن استماعه ويجزل عليه ثوابه ولا يشتعل عنه"[41] ، وحين بلغ التابعي سعيد بن جبيرـ رضي الله عنه ـ أن ناسا بالعراق يكرهون الشعر قال : نسكوا نسكا أعجميا .[42] وقد سأل أبو موسى الأشعري لبيدا عن الشعر فقال : ما قلت شعرا منذ سمعت الله ـ عز وجل ـ يقول "ألم ذلك الكتاب لاريب فيه " وعلى هذه القصة يعلق ابن العربي قائلا "وهذه الآية ليست من عيب الشعر، كما لم يكن قوله تعالى {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }[43] من عيب الكتابة ؛ فلما لم تكن الأمية من عيب الخط كذلك لا يكون نفي النظم عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عيب الشعر "[44] على أن في مسألة اعتزال لبيد للشعر نظر لدى بعض مؤرخي الأدب حيث يقول طه حسين " وأكبر ظني أن لبيدا أعرض عن الشعر في الإسلام فلم يتخذه صناعة ولم يكثر من إنشائه وإنشاده وانصرف عنه إلى القرآن ، ولكنه قال في الإسلام غير بيت "[45
وعن وضعية الشعر في صدر الإسلام يقول الدكتور شوقي ضيف " ... ومن يرجع إلى كل هذه الـمصادر يستقر في نفسه أن الشعر ظل مزدهرا في صــدر الإسلام وليس بصحيح أنه توقف أو ضعف كما ظن ذلك ابن خلدون "[46] وفي رأي شوقي ضـيف هذا يشاطره كل من الدكتور عمر فروخ والدكتورة بنت الشاطئ وغيرهما
والآن وقد تبين لنا مدى الخلاف بين الفريق الذي يزعم أن الإسلام ينـفي الشعر والفريق الذي يجزم أن الإسلام يقتضي الشعر فهل يجوز أن نقرر أن هناك نقطة تلاق حتمية؟
إن من يتأمل آراء الفريقين يصل إلى أنهما متقاربان في الطرح فالإسلام ينفي ويلفظ الشعر الفاحش الذي يركب المبالـغة والكذب ويدعو إلى الغواية والشر، وبالمحصلة فإنه يقتضي ويطلب الشعر الذي يحث على الفضيلة ويغرس قيمها ويسمو بالنفس إلى تمثل مكارم الأخلاق زارعا روح الألفة نائيا عن كل ما يقوض فضيلة الانسجام في المجتمع الإسلامي ، فحين بلغ كعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ قوله من قصيدته المشهورة " بانت سعاد " لا يقع الطعــن إلا في نـحورهم وما لهم عن حياض الموت تهليل
نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى من عنده من قريش كأنما يقول : اسمعوا. حتى قال كعب
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ضرب إذا عــرد السود التنابيل
يعرض بالأنصار لغلظتهم ـ كانت ـ عليه ، فأنكرت قريش ذلك وقالوا : لم تمدحنا إذ هجوتهم ولم يقبلوا منه ، حتى قال
من ســــره كرم الحياة فلا يزل في مقنب من صـــالح الأنصار
يتطــهرون كــــأنه نسك لهم بدمــاء مــن علقوا من الكفار
فلو لم يدرك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومِن ورائه المهاجرون مدى تأثير الشعر في قلوب العرب لما تألفوا الأنصار بشعر كعب
إذن؛ فصوت الشعر لم يخفت ، والشعراء لم يستقيلوا وإنما خضعوا لمجريات الحياة الجديدة التي رسم الإسلام ملامحها الاجتماعية والسياسية والثقافية وجسد القرآن مستواها الإبداعي ،ذلك المستوى الذي أذهل سدنة الفصاحة وأدهش صاغة الشعر فطفقوا يصلون في محرابه بعد أن رأوا إبداعهم الشعري باهتا خافتا أمام نصاعة القرآن والقه وخرجوا من تيه التوجس والاحتراس إلى فضاء التحسس والاقتباس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق