.............................
الحوت يروي أسباب إنسلاخه من الحركة الشعبية وقصته مع الوطني
...............................
لماذا بكي الفنان الراحل محمود لدي زيارة (دار المايقوما) بالخرطوم ؟؟
...............................
توثيق : سراج النعيم
............................
واستمر في السلسلة التوثيقية للفنان الراحل (الحوت) كما يحلو لجمهوره أن يناديه، وبما إنني تطرقت لإنضمامه للحركة الشعبية، والكيفية التي استقطبه بها من قبل الدكتور الراحل جون قرنق دي مبيور، إلا أن محمود عبدالعزيز كان واضحاً في خوض هذه التجربة الجديدة، قائلاً : (إن أسباب إنضمامي نابعة من الطرح الثقافي والفني الذي طرحته الحركة الشعبية في برنامجها بعد توقيع إتفاقية نيفاشا).
وأضاف : لماذا لا أنضم للحركة طالما أن قرنق أكد تحولهم من حركة مسلحة إلي حزب يولي الجوانب الإجتماعية والثقافية والفنية جل إهتمامه، وهي جوانب تصب رأساً في إطار التنمية والسلام والوحدة بين الشمال الجنوب، وعندما التمس أن الحركة الشعبية لم تف بما وضعته علي منضدته لم يتوان ولو لكسر من الثانية في إعلان إنسلاخه بعد أن حادت عن طرح قرنق الوحدوي الذي قاده في وقت سابق، حيث كان يحلم بتوحد شطري السودان الشمالي والسودان الجنوبي، ولم يكتف بالحلم بل حث شعرائه علي تأليف نصوص غنائية يترجم بها ما يصبو إليه إلي أرض الواقع، وقد شجع شعب الجنوب علي السعي الحثيث للوحدة، فكانت أغنية (في مدينة جوبا) و(يا جونقلي حاشا ما نسوك)، وهما الأغنيتين اللتين قام بتصويرهما مخرج الروائع شكر الله خلف الله، وتم بثهما من علي شاشة تلفزيون السودان، وقد وجدا تفاعلاً كبيراً، ولكن رغماً عن إلتزام الفنان الراحل محمود عبدالعزيز بالفكرة إلا أن الحركة الشعبية كانت تهدف من إستقطابه لكسب جماهيريته العريضة، وبالتالي قرر الإنسلاخ نهائياً، وترك الحركة الشعبية بعد خيبة آماله التي عمل في ظلها بشكل جاد، الشيء الذي حدا به أن يقول بصراحته المعهودة : (الحركة الشعبية لم تكن بحجم الطموح، ولم تنفذ البرنامج الذي رفعت شعاره خاصة فيما يخص الأنشطة الإجتماعية والثقافية والفنية).
وأكتسب الحوت تميزاَ ونجاحاً كبيراً في الإنضمام للحركة الشعبية التي حينما تجاوزت الفكرة المرسومة في مخيلته رفض الفكرة نهائياً معلناً عدم رجوعه، ولم يحدد وجهته الحزبية ولكنه شارك في البرامج الإجتماعية والثقافية والفنية التي نظمها حزب المؤتمر الوطني بما في ذلك مشاركته في الحملة الإنتخابية للسيد المشير عمر البشير رئيس الجمهورية ونفرة (هجليج)، وقد قال الحوت أنه كثف من نشاطاته السياسية من أجل وحدة السودان، ولكن بكل أسف لم تلتزم الحركة الشعبية بالبرنامج والرؤية التي عمل في إطارها الدكتور الراحل جون قرنق، لذلك من الإستحالة أن أكرر التجربة التي افتقدت للقيم الإنسانية التي يبحث عنها العامة في وطني لأنهم يدركون جيداً أن الإنتماء يتطلب تنفيذ الشعارات علي أرض الواقع، وهذا ما لم تفعله الحركة الشعبية ربما عدم إنزال البرنامج للواقع هو ما قاد الإخوة الجنوبيين لإختيار الإنفصال عن الشمال.
وبهذا الوضوح أصبح الفنان الراحل محمود عبدالعزيز فارساً يشق الأزمنة التي جاء إليها من الحي الصغير المزاد بالخرطوم بحري ليذيع صيته في كل أرجاء السودان الذي أحبه لذلك عمل بكل وفاء وإخلاص من أجل أن يظل السودان موحداً يسنده في ذلك وعي فكري ، فجاءت إبداعاته كالأمطار التي ارتوت بها الأرض الفنية السودانية الجافة، نصوصه الغنائية والحانه وموسيقاه صولجان يحمل السحر الذي لا يعرفه سوي جمهوره الذي ظل يشد من أزره في أحلك الأوقات ، فلم يخيب ظنهم معلناً منذ الوهلة الأولي عن وجود إنسان قبل أن يكون فنان كبير، وإنسان هذه لأنه كان كسحابة بيضاء تحلق لترسم في صدر السماء مكانة لنجم جديد أكسبته التجارب الشرعية الفنية والذوقية لتهبنا موسيقاه وأغنياته الخالدة في وجدان الأمة السودانية فكانت ومازالت تزدهر كنخلة باسقة بالحب والأمنيات.
وأينما حط الحوت رحاله تحتشد حوله أسراب العصافير والحمام مترجماً بوضوح شديد دلالة أن تكون الأغنية منسجمة مع روح العصر ومواكبة مع آفاقه وكل متغيراته البيئية والمناخية، مما جعل جيوش العشاق تردد حكايات وأنغام هذا الفنان الأسطورة الذي لا يساوم بحفنة جنيهات أو دولارات رغماً عن تأكيد شهرته ، وبرزت نجوميته في الفضاء الواسع ليكون بهذا امتداداً طبيعياً لكبار الخالدين واضعاً حداً للتأويل والتشكيك في حياته الإبداعية التي كان يجابهها بالصمت، ويعمل ويدع الآخرين يتحدثون ويطلقون حوله الشائعات المغرضة، وأن كنت لا أري ثمة أي أسرار أو تكهنات، إنما هي الصدمة الغنائية الحوتية، فتعالوا معي لكي نواصل تقلب صفحات وصفحات من رحلة سفير الأغنية السودانية أو فنان الأجيال.
وواصلت حواري الذي ركزت فيه علي الإنضمام للحركة الشعبية فسألته ألا تعتقد أن هذه الخطوة قد تخصم من رصيدك لما تلاقيه من محبه جارفه من الجماهير التي بعضها ارتبط اسم الحركة لديه بالتمرد؟ فقال : (كما أسلفت فالحركة رفعت في بادئ الأمر شعارات حسبت أنها ستكون دافعاً للوحدة التي عملت من أجلها في القطاع الثقافي ولكن الحركة الشعبية التي تفاعلت معها في ذلك لم تلتزم بالفكرة التي طرحها عليّ الدكتور جون قرنق).
بصراحة كيف تنظر للفنان الذي يغني للأنظمة السياسية والأحزاب؟؟ قال : (بكل تأكيد لا أري غضاضة في أن يتجه الفنان علي هذا النحو خاصة إذا كانت قناعته السياسية هي التي دفعته في هذا الإتجاه ، فالفنان في النهاية إنسان يعبر عن ذاته، وينتمي لما هو يعتقد فيه خيراً لأبناء وطنه، وعندما أنضممت للحركة الشعبية كنت أهدف للوحدة.
ومما ذهبت إليه مسبقاً وجهت دفة حواري مع الفنان الراحل حول رؤيته لمستقبل الفنان السياسي؟ فأجاب عليّ بدبلوماسية حسدته عليها قائلاً : (الفن ليس بمعزل عن السياسة والفنان السياسي يجب أن ينحصر تفكيره في خدمة الإنسانية بحكم أنه مؤثر في جمهوره علي الأقل مع التمسك بفكرته القومية، فالتجارب الحزبية أثبتت فشلها والدليل على ذلك الأثر العميق الذي خلفته الحركة الشعبية سلبياً في المجتمع إن كان في شمال السودان أو جنوبه).
طالما أن مفهومك عن السياسة يندرج في هذا الإطار الإنساني أين أنت من القضايا الإنسانية؟، قال : (يا أخي لابد من أن تعرف حقيقة واحدة هي إنني لا الجأ إلي إظهار ما أقدمه في هذه الجوانب التي تطرقت إليها، ولكن في المستقبل يمكنك ذكرها، ولكن الآن أحتفظ بها لنفسك وسيأتي اليوم الذي تنشرها فيه وأظنه قريباً جداً، أنا يا عزيزي سأذهب بعد سويعات من الآن إلي دار المايقوما، وأتمني أن تكون برفقتي حتى تقف بنفسك علي كيف يستقبلني هؤلاء الأيتام، وبالفعل تحركنا لوحدنا بعربته فتفاجأت بأنه يستأذنني للتسوق من إحدي البقالات القريبة من الدار بـ(السجانة)، ويشتري الكثير من أكياس الحلوي ومن ثم نتوجه مباشرة إلي هناك وعلي ما أعتقد كانت الساعة تشير إلي العاشرة مساء، وما أن دلفنا حتي لاحظت أن دموعه بدأت تتساقط مدراراً فقلت له دعنا ننصرف فقال لا بأس ولكن بعد أن أقدم لهم هذه المبالغ المالية والحلوي.