..................................
وقفت متأملاً ظاهرة التسول المنتشرة في المجتمع بشكل يدعو إلي دراستها دراسة مستفيضة وتحليلها تحليلاً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ودينياً وسيكولوجياً، إلا أنني أعيب إغفال بعض الجوانب والتركيز علي تحليل الظاهرة في نطاق ضيق جداً، خاصة وأن التسول أخذ أشكالاً مختلفة في المجتمع، فالمتسول إنسان مريض إذا لم نقنعه بالعلاج فأنه بلا شك سيصاب بالإدمان وبالتالي يصعب استئصال الظاهرة التي يقننها البعض بصور تحمل بين طياتها الغرابة، وقد نجح الفنان عادل إمام في تجسيد ظاهرة التسول في فيلمه الذي حمل عنوان (المتسول).
من الملاحظ أن المتسولون يعملون علي تطوير الظاهرة والتنوع في التسول مبتعدين عن الطرق التقليدية، وهؤلاء هم الأكثر خطراً علي المجتمع، فالظاهرة تتطلب منا أن نلقي عليها الضوء من واقع مشاهداتنا اللصيقة للبعض من المتسولين الذين لديهم أساليب، وطرق متطورة بصورة لا تخطر علي البال.
ولنبدأ التطرق للظاهرة من حيث الطرق التقليدية التي يستعطف فيها (الشحاد) العامة من خلال الإعاقة التي يتخذون في إطارها مواقعاً إستراتيجية مثلاً الأسواق وأماكن التجمعات، وأمام المساجد ومداخل الكباري والأستوبات ليمدوا أيديهم للناس طلباً للمال، ولم تقف الظاهرة عند الرجال، إنما امتدت للنساء والأطفال الأصحاء وأصحاب العاهات، وهنالك متسولون يدعون أن لديهم مرضي بالمستشفيات، وآخرين يقولون إن الظروف التي مرت بنا هنا أفقدتنا مبلغ تذاكر السفر إلي مدننا البعيدة، وهنالك بعض النساء يحملن طفلاً أو طفلة في مواقف المواصلات العامة وتقول الواحدة منهن للمارة : (لو سمحت، ثم تطلب منه المساعدة)، وهكذا يتكرر المشهد يومياً ، أي أنهم اتخذوا من الظاهرة مهنة، وأمثال هؤلاء أفقدوا أصحاب الحوجة الحقيقية المصداقية، ومن هذا المنطلق أدعو من يتسولون بالمرض لهم أو لأقربائهم أن لا يفعلوا.
وهنالك من يستقلون المواصلات للتسول بكلمات محفوظة يشرحون من خلالها الظروف الاقتصادية التي تمر بهم حيث أنهم يدعون أن لديهم روشتات طبية ولا يملكون المبلغ الخاص بصرفها.
وتتواصل الظاهرة في أشكال مختلفة، إذ أنهم يتخذون من إشارات المرور موقعاً للتسول، وذلك بمسح زجاج السيارات التي تقف بأمر الإشارات المرورية التي لا يتجاوز زمنها دقائق معدودة، ثم يطلب المتسول مقابلاً لما قام به، كما أن هنالك ظاهرة الأطفال من الجنسين الذين ينتشرون في الحدائق وغيرها، ضف إليهم أولئك الذين يتخذون من تحت الأرض مسكناً بالليل، ويجوبون الأسواق والطرقات بالنهار.
إن الأسباب القائدة للظاهرة هي أن الكثيرين يلجئون لممارسة (الشحدة) في بادئ الأمر للظروف الاقتصادية القاهرة، وعندما يجد المتسول أنها تحقق له عائداً مالياً كبيراً يمتهنها كمهنة تدر عليه أرباحاً لا تدعه يكف عن (الشحدة).
السؤال الذي يفرض نفسه ما هي الكيفية التي يمكن أن نستأصل بها ذلك الداء؟ الإجابة في رأي تكمن في إجتزاز الظاهرة من جذورها، بالتعامل معها بحسم شديد، ثم العمل بشكل جاد علي تجفيف منابعها، ودراسة حالة المتسول من الناحية الاقتصادية لتبيان الأسباب الحقيقية التي تقوده علي هذا النحو حتى يتم تأهيله بالصورة التي لا تدعه يعود إلي التسول مرة آخري.
ولكي ننجح في الخطوات سالفة الذكر، يجب توفير فرص لمن هم خارج منظومة العمل ومحاربة الفقر إلي جانب توعية وتثقيف المتلقي بخطورة الظاهرة من كل نواحيها، خاصة وأن أحاديث سيد البشرية عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، تحث العباد علي العمل في قوله : ( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وأن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده) ﺭﻭﺍﻩ ﺍﻟﺒﺨﺎﺭﻱ، وقال أيضاً : (ﻷن يحتطب أحدكم حزمة علي ظهره خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه).
وحتى تنتهي ظاهرة التسول يجب أن نوفر المال للمحتاج الحقيقي عبر الدراسات الميدانية بواسطة اللجان الشعبية في الأحياء باعتبار أنهم الأدري بمن هو الأحق بأموال الزكاة والصدقات التي يجب توزيعها بحسب قول المولي عز وجل : (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وأبن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم).
من هنا أتمني صادقاً أن يعود المجتمع للدين الإسلامي في كل كبيرة وصغيرة، وأن تتحد الجهود من أجل اجتزاز ظاهرة التسول بشكل نهائي لما فيها من سوالب ظاهرياً وباطنياً، فالظاهرة من أساسها مرض نفسي خطير، ينتشر يوماً تلو الآخر بصورة مخيفة ومرعبة.