الكاتب الراحل عبده يوسف صالح ..
غادر الدنيا قبل محمد وردي .. ولكنه ترك لنا سفراً ضخماً سطره عن حياته وفن محمد
وردي ولم يترك شاردة أو واردة الا وتوقف عندها ..فهو قال في مقدمة كتابه (يسعدني
أن أقف شاكراً ومقدراً للكاتب لما قدمه لفن وتاريخ (( وردي )) من خدمات كبيرة
راجين أن يحوز على رضاكم .)الى كل من نبض قلبه حباً وعشقاً وإعجاباً بالفنان محمد
وردي نهدي هذا التوثيق الذي يحمل بين سطوره المسيرة الرائعة لأحد المعجزات الفنية
التي ظهرت في عصرنـا الحديث ...الشعب السوداني عرف الفنان المبدع الأستاذ/ محمد
وردي وصفق له من خلال أغنياته العزيزة والخالدة ، وهو فنان السودان الأول والموسيقار
الحائز على جائزة نيرودا .. هو صانع الغناء الحديث ورائده الأول ، مسيرته الفنية
والوطنية كانت مشواراً طويلاً تعاقبت فيه أجيال على السودان ... أسهم بإبداعه
وفكره وجهده في القصيدة الوطنية وحملها تاريخ كفاح ومجاهدات شعبنا السوداني منذ
فجر التاريخ منذ بعانخي مروراً بملاحم كرري وأم دبيكرات ومعارك الاستقلال منذ ثورة
ود حبوبة وكفاح جمعية اللواء الأبيض ونضال الخريجين بقيادة أزهري ورفاقه.
البداية الفنية:
فتح عينه على الدنيا في بيئة امتزج
فيها الحرمان بالعطف المتدفق ، تمثل جانب الحرمان في فقدانه لوالدته السيدة / بتول
أحمد بدر شريف ، وهو رضيع وتدفقت شلالات العطف لتعوضه عن ذلك الحرمان المبكر ، كان
عمره حوالى السنة عندما فقد أمه ، عاش بعدها مع أهل والده مع أن العادة جرت أن
يعيش الطفل اليتيم مع أهل أمه التي فقدها خاصة وهي ابنة العمدة لكن جاء الإصرار من
أهل أبيه أن يشملوه برعايتهم ، وكان أبوه عثمان حسن صالح ، ليس له شيء في الدنيا
غير زراعته ، يطوقه بعطف غير عادي ويسعى لتعويضه عن فقدان أمه . كان جده لأمه وجده
لأبيه على قيد الحياة اللذان أحاطاه بالرعاية بعد وفاة والده بسبب الإلتهاب الرئوي
عام 1941م ، كفله بعد ذلك عمه صالح وردي وهو مساعد طبي قبل وفاة والده وعمره تسع
سنوات ، يذكر وهو صغير كانت لديه هواية الغناء خاصة عندما يذهب الى جزيرة (( واوسي
بصواردة)) التي كان يزرعها أهل البلدة ولد الفنان (( محمد وردي)) في قرية صواردة
على بعد 207كلم جنوب وادي حلفا في 19يوليو 1932م .
رغبة وردي في تعلم الطنبور:
الصورة الغنائية التي تمر على
الأذهان من تلك الفترة تتلخص في غناء غير مرتب كان يسمع في المنازل والمناسبات
الإجتماعية والعملية من أعراس ، حفلات ، ختان ، موسم حصاد ، وهو في الأساس غناء
أهل المراكب ،، كان الغناء باللغة العربية وبالرطانة أو اللهجات المحلية .. منطقة
صواردة مشهورة عموماً بأنها بيئة فنية غنائية يحترم أهلها الصوت الجميل .. في تلك
الفترة تفتحت رغبة وردي في تعلم الطنبور .. الآلة الموسيقية الوحيدة المتاحة في
المنطقة وتقليد عمه عبدون أحمد .. قام عمه بتنفيذ وصية والد وردي بإدخاله المدرسة
وذلك عام 1942م في (عبري) التي تبعد مسافة 28كلم من صواردة ومكث بالداخلية ومعه
رغبته في تعلم الطنبور .. ويذكر أنه وجد مساعد طباخ (مرمطون) يدعى / عوض عبدالغني
من قرية ( عمارة ) شمال عبري ، كان لديه طنبور ويطلب منه غسيل صحون الطلاب
كلها(100 طالباً يومياً) قبل أن يسمح له بإستعارة طنبوره لمدة ساعة من الزمان ..
وقد بذل وردي جهداً كبيراً لدرجة أنه أصبح يتقن العزف على الطنبور أكثر من صاحبه
..
صوت سمح:
وعندما انتقل وردي الى السنة الثانية
في المدرسة ، كان لديهم ناظر اسمه / إبراهيم عمر النحاس ، كان يمر على الداخليات
ويقف قرب غرفة وردي عندما يغني ويضرب الشباك بعصاه .. وعندما يفتح وردي النافذة
يسأله (( ما تخاف يا محمد ... أنت بتقول شنو؟ )) يرد وردي بقوله : (( أمدح)) فيضيف
: صوتك سمح ... أمدح .. وأحياناً كان يأخذ وردي من فصله الى السنة الرابعة كي يقرأ
القرآن ... وكان يقول لوردي ... يا ولدي أنت يا تصبح غناي أو ممثل ..وكان هناك
الشيخ / محمد مكي (( ناظر مدرسة قبة سليم الصغرى )) الذي ساعد وردي في تجويد اللغة
العربية وهو جده من جهة والدته ، خريج الأزهر ولغوي فصيح درس وردي على يديه النحو
والصرف والبلاغة وألفية ابن مالك ومتن الأجرومية ...
مشوار وردي الفني:
بدأ وردي في الإذاعة بالدرجة الرابعة
حسب النظام المتبع ، وكانت الحفلات تقدم حية بمعاونة أوركسترا الإذاعة والكورس
الخاص بها في ذلك الوقت ، ولكل فنان حق المشاركة في هذه الحفلات الحية مرة واحدة
كل ثلاث شهور .. وكانت الإذاعة تقيم سنوياً حوالى أربع حفلات ، وتعتمد فيها فئات
تتراوح بين 5 , 3 جنيه للدرجة الرابعة ، الى عشرة جنيهات لمن يغني في الأول . وقدم
وردي في الحفلتين الأولي والثانية أغنيات (( ياسلام منك أنا آه)) و ((أول غرام)) و
((وليه نسيت أيامنا)) بعد دخوله الإذاعة وإعتماده في الدرجة الرابعة إشترك في
نقابة الفنانين وبعد شهرين أجريت الإنتخابات حيث أحرز وردي 36صوتاً ودخل اللجنة
التنفيذية ، وإستغرب البعض حصوله على هذا العدد من الأصوات . فدخل وردي العمل
النقابي وساعده حسن سليمان الذي كان مرتاحاً لدخول عناصر جديدة ومتعلمة للجنة
التنفيذية ،، في ذلك الوقت لم يكن العازفون يبدون إهتماماً بناشئة الفنانين ،
وعندما جاءوا لتوقيع لحن (( أول غرام)) دعا وردي العازفين للدخول وكان من بينهم
العازف / حسن الخواض وهو عازف كبير يهابه الفنانون وكان رده إنه سيدخل بعد إضاءة
النور الأحمر للتسجيل إذ لا يحتاج للتوقيع والتمرين ،، وعندما جاء طلب منه وردي
الخروج لأنه لم يكن موجوداً من البداية ، وأصبح هذا التصرف حدثاً لم يكن لأحد أن
يجرؤ على مواجهة حسن خواض ..
الأصرار علي الوصول:
وكان متولي عيد – مدير الإذاعة –
موجوداً ويراقب من غرفة التسجيل ما حدث فنادى وردي وقال له : (( أنت أعجبتني
لإصرارك على الأصول والعازف إذا لم يتقيد بالقواعد لا مكان له هنا )) ، ثم نادى
علي الخواض وأوقفه من العمل لفترة ، وأضاف أنه نقل وردي من الدرجة الرابعة الى
الثالثة من تلك اللحظة ، ثم أصبح يبعث لوردي خطاباً تقويمياً كل ثلاثة شهور يتحدث
فيه عن أدائه العام ورواج أغنياته في برنامج (( مايطلبه المستمعون )) وكيف أصبح
ينافس كبار الفنانين أمثال : ابراهيم الكاشف ، وحسن عطية ، وعثمان حسين ، وابراهيم
عوض ، مهدداً وردي أنه سيرجعه الى الدرجة الرابعة مرة ثانية إذا لم يحافظ على هذا
المستوى .
الإنتقال للدرجة الأولى:
وبعد أقل من سنة إنتقلت الإذاعة من
مبناها القديم الى المبني الجديد (الحالي) فاستدعى متولي عيد – مدير الإذاعة –
كبار الفنانين وأحضر وردي معهم ليقول أن وردي خلال الفترة الماضية أنجز أعمالاً
فنية جديدة ، وأنه يريد خرق العادة ليقوم بنقله الى الدرجة الأولى في خلال عام ،
وسألهم عن رأيهم .. وكان وردي قبل ذلك غنى (( الوصيـة )) و (( وذات الشامة )) و ((
حرمت الحب والريدة )) و (( ياناسـينـا )) . غالبية الحضور من الفنانين وافقوا بدون
تردد على إقتراح متولي عيد نقله للأولى – ما عدا عثمان حسين – الذي رأى أن يستمر
تجريبه مرة ثانية ، فحسم متولي المسألة قائلاً إن الأغلبية وهو معها وافقت وكتب
لوردي بهذا المعنى في سبتمبر 1958م وأضاف فيه تهديده المعهود أنه إذا خذله فسيعيده
الى الدرجة الرابعة مرة ثانية .
الفنان الصاروخي:
بعد ذلك إشتدت المنافسة بينه وبين الفنان
ابراهيم عوض الذي لقب (( بالفنان الذري)) بينما لقب وردي (( بالفنان الصاروخي ))
،، ومن ذكريات المنافسات أن وردي والفنان عثمان حسين كانا في حفلة في ((الخرطوم
3)) وهي منطقة وجود نوبي وقربها السجانة التي تضم الشايقية وفجأة وجدا نفسيهما في
مناخ تنافسي بين الجمهور . وكان الدعم الرئيسي الذي أمد وردي بشحنة معنوية جاء من
أهله في الشمالية عندما سافر الى هناك لأول مرة بعد أن أصبح فناناً ، فقد تجمع
الناس لمسافة تصل الى عشرة كيلومترات حتى منزل وردي وكان يبكي والناس يبكون خلال
ذلك الإستقبال الذي لن ينساه مدى الحياة .
تجربتـه مع الحكم العسكري الأول فـي
الســودان :
في اليوم الثاني لإنقلاب 17 نوفمبر
1958م تحرك وردي من منزله صباحاً وفي طريقه الى مدرسة الديوم التي كان يعمل بها ، التقى
توفيق محمد نورالدين قرب سينما الخرطوم جنوب ، وكان ضابطاً في الجيش .. سأله وردي
: (( مالك هنا الصباح بدري ؟ )) فأجابه بفرح ..(( لقد عملنا إنقلاب ومسكنا البلد
)) .. إنفعل وردي بكلامه فيما يبدو خاصة وقد كانت هناك بعض المشاكل في البلاد يذكر
منها = أزمة كبريت مستفحلة = ثم أن الصلة القوية بينهما وعداءه للحكومة السابقة
خاصة مع إنعكاسات أزمة حلايب التي أثيرت إبان حكومة عبد الله خليل ، كل ذلك جعل
وردي يتخذ موقفاً إيجابياً من الإنقلاب ، وعندما ذهب الى المدرسة كتب نشيداً يقول
مطلعه : (( في 17 بعثت ثورة ... ثورتنا السليمة ... جيشنا الباسل هب وعلَّا رآية
الجمهورية ...)) ثم جمع وردي طلاب السنة الرابعة وقام بتحفيظهم النشيد بلحنه وقام
بإحضار أحد الأشرطة القديمة وسجله فيه وذهب به الى الإذاعة ... وجد اللواء طلعت
فريد هناك في مكتب المدير وكان قد تولى منصب وزير الإعلام ، فاتصل اللواء طلعت
فريد بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي تولى السلطة وكان ردهم أن طلبوا منه أن
يسمح لوردي بالتسجيل ... ذهب وردي الى المدرسة وأحضر الطلاب في الوقت الذي جهزوا
له فيه فرقة الموسيقى التابعة للجيش وتم تسجيل النشيد ،
عدم إلمام بالسياسة:
وبعدها ذهب وردي بفترة الى جامعة
القاهرة فرع الخرطوم لإحياء حفلة غنائية وفوجئ بمجموعة من الطلاب تهتف ضده : ((
يسقط فنان الفاشست)) وبالرغم من عدم إلمامه بالسياسة وقتها فقد شعر بضيق ، وبدأ
يسأل نفسه لماذا يا ترى هتف الطلاب ضده ... وبدأ يتصل ببعض المثقفين والطلاب من
أقاربه وأهله خاصة محمد توفيق أحمد الذي جمعه ببعض المثقفين الذين شرحوا لوردي أن
حكومة عبد الله خليل كانت ستسقط عند إفتتاح البرلمان في 17نوفمبر ،، وستتولى
المعارضة الحكم ، ولذلك قام بتسليم السلطة الى الجيش ، وفعلاً إبتداء من مطلع
1959م بدأ وردي في تغيير موقفه من النظام خاصة بعد حادثة إعدام مجموعة على حامد
العسكرية إثر إتهامهم في محاولة إنقلابية كما بدأت نظرته الى الشعر تتغير ..
وردي يتعاون مع شعراء جدد:
في هذه الفترة تعرف وردي على الشاعر
الجيلي عبد المنعم عباس ، وكان طالباً في حنتوب ، وأعطاه أغنية (( أيـامـك )) و ((
وأخادع نفسي بحبك وأمنيها )) . ومنذ ذلك الوقت بدأ يتنامى عنده الإحساس أن أشعار
إسماعيل حسن لا تشبع رغبته اللحنية ، وإن كان قد غنى له سلسلة جميلة من أغانيه
بدأت بأغنية (( صـدفـة )) ، ثم (( غـلـطـة )) و (( سـؤال )) و (( حـنـيـة )) و ((
خـاف مـن الله )) وأخيراَ (( المـســتـحـيـل )) ... وكلها كانت تعكس تجربة خاصة
بوردي قام هو بصياغتها شعراً ،، وكانت المستحيل خاتمة تلك السلسلة وخاتمة علاقته
بإسماعيل حسن الذي لم يغن له وردي بعد ذلك إلا عام 1974م ‘ أغنية (( أسـفـأي )) ،،
وكان قد أعطاها الى الفنان صلاح بن البادية ، ثم حولها لوردي فيما بعد ... ثم حدثت
جفوة بينه وبين إسماعيل حسن الذي كان يعتقد أن الشاعر ينبغي أن يكسب مادياً مثل
الفنان ، وتطور الأمر الى إدعاء من جانبه أنه هو الذي أسهم في صعوده كفنان ويمكن
بالتالي أن يحطمه ، بل وبدأ فعلياً باحتضان المطرب الجديد أحمد فرح ليكون البديل .
وكان الشاعر مرسي صالح سراج يتولى الرد في الغالب من خلال طرحه أنه لولا صوت وردي
لما عرف شعر إسماعيل حسن بالطريقة التي انتشر بها ، ثم بدأ وردي بتكوين علاقات مع
شعراء آخرين ، وإنفتحت عليه عوالم فنية جديدة وشابه ..