يعتزم الأمين العام للمؤتمر الشعبي د. حسن الترابي التخلي عن حزبه الحالي وتكوين كيان جديد، بعد أن تيقن أن المؤتمر الشعبي في طريقه إلى الزوال ولم يحقق ما كان يصبو إليه. وتحصلت «الإنتباهة» على منفستو ــ ينشر بالداخل ــ أعده د. الترابي يكشف فيه عن رؤيته للحزب أو الكيان الجديد الذي يريد أن يؤسسه. وأوضح الترابي أن داعي التجديد أن الحركة الإسلامية إذا استطاعت تجديد وطرح نفسها بتجديد رؤيتها ومؤسساتها التنظيمية وبناء هيكلها، فستكون قد ولجت مرحلة ما بعد المؤتمر الشعبي، وأضاف أنه إذا حدث التجديد اللازم فإن شرطه أن تكون الحركة منفتحة على المجتمع الواسع ومتفاعلة معه، فلا تستحيل إلى بنية فوقية متعالية ومتمايزة عنه.
وأشار الترابي إلى أن هدفه رفع التعسف عن تصرف الأمراء في الكيان الجديد وتصرف الأعضاء على السواء، ودعا إلى ضبط مبادرتهم ضمن قواعد وشروط وعهود متفق عليها، وأضاف: «ليس التكليف إطلاق يد الأمراء في جميع الشؤون والمجالات والميادين التي يشتمل عليها نشاط الأفراد الاستخلافي»، وزاد: «لا لفرض اعتبارات جماعية معنية، ولو كانت اعتبارات الأكثرية على الحركة بكاملها»، ولفت إلى أن علاقة شؤون الحركة والأفراد وشؤون الإمارة من الثنائيات التي يمكن تجاوزها في وجود الفرد المؤمن.
وأكد الترابي أن النظام الأساسي في الحركة يقتضي تنظيم أي تعارض ظاهري بصورة ما، وأضاف: «يتعين على الولاية الحركية أن تحسم الأمر عملياً، وتضع الحدود المناسبة بين الشؤون العامة والخاصة، وتحديد المعايير التي تعتمدها لتنظيم الشؤون الخاصة من جهة مسؤوليتها عن الشؤون العامة، وهذا يعني أن تحديد الجائزات والواجبات والممنوعات بالنسبة للمشيئة الفردية لأفعال الأفراد وأنشطتهم الاستخلافية».
«الإنتبـاهة» تنشـر أخطر وثيقة كتبها الــترابـــي
يبدو أن الدكتور حسن الترابي قد وصل ليقين لا يساوره الشك أن المؤتمر الشعبي، ذلك الحزب الضرار الذي أسسه عقب الخلاف الشهير بين الإسلاميين، والذي أراد له أن يكون بديلاً عن المؤتمر الوطني، يبدو أن الدكتور قد شعر يقيناً بأن حزبه هذا إلى زوال، وتيقن له أن هذا الحزب الكسيح لم يؤدِ الدور المطلوب منه بما يحمله من تناقضات وخلافات أثقلت ظهره وقعدت به عن السير في درب الترابي الذي أراده له. لذا وضع الآن الترابي رؤيته لتأسيس حزب جديد، وخطط له، ووضع ما يشبه نظامه الأساسي، وفي هذه المساحة تنشر «الإنتباهة» في هذه الحلقات الأفكار الأساسية التي كتبها الترابي، والتي تعتبر فراقاً للمؤتمر الشعبي، وإقبالاً على تنظيم جديد فيه لون ورائحة الترابي، والتي يعتبرها قفزات يتميز بها دوماً على حسب قناعته بنفسه، وأنه إنسان حاضر الفكر رغم تقدمه في العمر «الخرف» الذي يصف به بعض أعضاء حزبه الذين هم أصغر منه سنّاً وذلك لأنه يستند على أثر عائلته من التعمير في الدنيا وينسى مقدرة الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
المؤتمر الشعبي
الحركة الإسلامية ما بعد المؤتمر الشعبي
«الولايات التنظيمية»
دواعي التجديد: إن الحركة الإسلامية إذا استطاعت تجديد وطرح نفسها بتجديد رؤيتها وتطوير منهجها، ومؤسساتها التنظيمية وبنائها الهيكلي فستكون قد استطاعت ولوج مرحلة ما بعد «المؤتمر الشعبي»، وحتى تنجح في ذلك فلا بد لها من أن تجدد رؤيتها لنفسها وللعالم، لأن طرح الحركة لنفسها، بنسختها الحالية «المؤتمر الشعبي» سيكون محاولة تاريخية يائسة تعمد لاستعادة دور جديد لها في مستقبل السودان والعالم الإسلامي والعالم بآليات قديمة، فإذا ما حدث التجديد اللازم، فإن شرطه أن تكون الحركة منفتحة على المجتمع الواسع ومتفاعلة معه، فلا تستحيل إلى بنية فوقية متعالية ومتمايزة عنه، فبقدر ما يرتبط الأعضاء فيها برباط سامٍ هو الإيمان والرؤية والالتزام والتنسيق، بقدر ما يجدون فضاءً كبيراً للتواصل مع مجتمعهم المحيط وتبليغ رسالة الحركة إليه وأدائها فيه، بحسب طبائع العمل الذي هم ملتزمون به ومسؤولون عنه، بيد أنه يعطي الحركة إمكانية لتوضيح رؤيتها على أكثر من صعيد، أعني الصعد المعرفية والاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن الصعيد السياسي، ومن ثم ممارسة التدافع مع الخصوم الذين يخالفونها الرؤية من خلال أطرها التنظيمية المتعددة في الداخل والخارج المؤسسي، وهو أمر لا تخفى أهميته في عصر التداخل العالمي الراهن، وتأثير وسائل الإعلام والاتصال العابرة للقارات على قضايا الاجتماع والسياسة.
مداخل أولية: نحن نعتبر إن ميثاق البيعة في الحركة، هو تعبير عن التزام إيماني محض بالقيام بالتكاليف الدينية، يتم الدخول فيه عن طريق الاختيار لا الإكراه فلا إكراه في الدين كما لا إكراه في الالتزام، وعلى هذا فإن المشروعية التأسيسية لعهد البيعة الديني في الحركة، موجودة في رغبة إجماع أفراد الحركة في التعبير الموضوعي التاريخي عن رؤيتهم الدينية في الواقع الخارجي، فعهد البيعة على هذا المعنى هو التزام بين الإنسان ونفسه يلتزم فيه الفرد مع إخوانه الآخرين طوعاً وبمحض إرادته الخاصة، وذلك فإن الميثاق الجماعي «النظام الأساسي» يستمد مشروعيته من إجماع المؤمنين عليه وموفقتهم إياه، عندئذ يضع كل فرد في الحركة طاقاته وقدراته وأمواله الخاصة، تحت تصرف التكاليف الدينية المضمنة في الميثاق العام، فينتج عن ذلك اجتماع طاقات المؤمنين وإيمانهم الجماعي الذي يعمدون به إلى إنقاذ تكاليف الرسالة في الواقع الظرفي، يتجسد ذلك في كيان جامع هو الإطار التنظيمي الكلي، الذي يكون بمثابة مؤسسة للتوحيد والتنسيق والإجماع، معنى هذا إن العهد الديني، أي عهد البيعة «النظام الأساسي» هو عهد يقوم على فكرة «التزام» الأفراد الخاص بالدين وتكاليفه، والذي تدافع أعضاء الحركة في العمل الأرضي في سبيل الله.
وعلى هذا فإن التكليف التنظيمي في النظام الحركي لا بد وأن ينبثق من الرؤية الإسلامية، فالرؤية هي الوضع الأشمل الذي ينبغي أن يكون عليه واقع الحركة من حيث هو واقع استخلافي وفقاً لسنن التاريخ إلاّ أن موضوعية قوانين التاريخ لا تنفي تداخل الذاتية في الحركة في الولايات التنظيمية التي تنطوي بنياتها وقطاعاتها على وجود ذاتي ولذلك يبدو واقع الحركة الاستخلافي واقعاً محكوماً بسنن ولوائح منفتحة، أي خاضعة في الوقت نفسه لعلاقات وشروط موضوعية ولتداخلات من جهة الذوات الفردية التي تشتمل عليها. بيد أنه يمكن القول إن علاقة الانتظام والمشيئة في الحركة تسير في اتجاه تعزيز معاني الإيمان والمشيئة الحرة للأفراد مع ضبط توجيهات قطاعاتها وتأطير تجدد نوازل الحياة فيها نحو الله، فالولاية الحركية الكلية، بهذا المعني، هي المرجع الذي يتولى مراقبة الانتظام ومواكبته إنتاج الإيمان والحرية ومتابعتهما، حتى تتجدد الحركة ويتعين ما لكل واحد من أفرادها ماله وما عليه بالنسبة إلى غيره من الأفراد الآخرين، وهكذا، عندما نقول إن ولاية الحركة التنظيمية هي الحركة باعتبارها كلاً منظماً، فإننا نعني أن الولاية العامة فيها تتولى مسؤولية تنظيمها وإعادة تنظيمها، تنسيقاً أو تكميلاً أو تعديلاً لعملية انتظامها، أو تشييداً لنظام آخر جديد.
وعلى هذا فإن تنظيم الولاية الحركية، لا بد وأن يقف على أشكال الممارسة الدينية لأفعال الأفراد والاستخلافية والشكل العام للاجتماع السوداني في ابتلاءاته المتجددة، فيحول التكليف الديني إلى نظام عام، مقرر بواسطة عهود ومواثيق معروفة، تهدف إلى رفع التعسف عن تصرف الأمراء وعن تصرف الأعضاء على السواء، وإلى ضبط مبادرتهم ضمن قواعد وشروط وعهود متفق عليها، إذ ليس التكليف إطلاقاً ليد الأمراء في جميع الشؤون والمجالات والميادين التي يشتمل عليها نشاط الأفراد الاستخلافي، ولا إلى فرض اعتبارات جماعية معنية، ولو كانت اعتبارات الأكثرية على الحركة بكاملها، ذلك أن علاقة شؤون الحركة والأفراد وشؤون الإمارة من الثنائيات التي يمكن تجاوزها في وجود الفرد المؤمن، باعتبار حضور الرؤية الإسلامية التي توجد معنى الإيمان تتجاوز ثنائية الفرد والمجتمع، فالولاية الحركية العامة لا صلاح لها إلاّ في الشؤون العامة، لأن الشؤون الخاصة من صلاح ولايات الأفراد باعتبارهم أشخاصاً مكلفين ومسؤولين تمام الاستقلال والمسؤولية عن أنفسهم أمام الله تعالى، لما كان الحد الفاصل بين الشؤون العامة، وكيفية تناسق الشؤون العامة والخاصة في الولاية الحركية ككل، ولما كان النظام الأساسي في الحركة يقتضي تنظيم هذا التعارض الظاهري بصورة ما، فإنه يتعين على الولاية الحركية أن تحسم الأمر عملياً، وتضع الحدود المناسبة بين الشؤون العامة والخاصة وتحديد المعايير التي تعتمدها لتنظيم الشؤون الخاصة من جهة مسؤوليتها عن الشؤون العامة، وهذا يعني أن تحديد الجائزات والواجبات والممنوعات بالنسبة للمشيئة الفردية لأفعال الأفراد وأنشطتهم الاستخلافية. فتناول الشؤون الخاصة من زاوية ارتباطها بالشأن العام وانعكاسها عليه، بما يسعى إلى تحقيق مقاصد الدين المتنوعة والمتجددة والآن، تحت مقصد شامل هو تحقيق الولاية العامة للحركة والإبقاء على المشيئة الفردية للأفراد حرة، ولما كانت الولاية الحركية لا تملك كولاية «آمرة» أصلية، حق التمييز النظري بين قطاع الشؤون الخاصة والشؤون العامة فإن يتعيّن عليها أن ترجع إلى الرؤية الإسلامية، أي إلى «الأمر الإلهي» حتى تستمد منه معايير وحدود ذلك التمييز، لكون هذه الحدود مقررة سلفاً في الرؤية الإسلامية، وتجنب الغرق في بحر الاختلافات التفسيرية بين علاقة الفرد بمجتمع الحركة وحول أصوله وتفاصيله.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن التواجد العضوي للأعضاء والقيادة في مكان واحد لم يعد ضرورياً لبناء انساق الولاية الناجحة، بتأثير من نهضة علوم الاتصال، كما أن المتابعة الميدانية والضبط الإداري لم يعودا بنفس الدرجة من الأهمية التي كانا بها في الماضي التنظيمي للحركة في فترات سابقة، بل يصبح الاشتراك في الرؤية والمذهب والمقاصد ودوام التشاور والتنسيق بين وحدات شبه مستقلة إدارياً وفنياً كافيين إلى حد كبير في بلوغ تحقق المقاصد الدينية المنشودة، فالمركزية التخطيطية يعوضها سرعة الانسجام الفكري والرؤية والمذهب الموحد في النظرة إلى الإسلام، والاستقلالية في العلاقات التنظيمية اللامركزية تعوضه سرعة الاتصال والإعلام ومرونته سوى إن قنوات الإعلام والاتصال الحركية من حيث هي قنوات إعلام واتصال، تنظيمي تجعل الأعضاء يشتركون في المعلومات المختلفة، لكنها لا تجعلهم يشتركون في الرؤية والمذهب، فالاشتراك في الرؤية والمذهب، هو إذن الأهم بين عوامل الاتصال والانسجام التنظيمي بين قضايا ومقاصد القطاعات التنظيمية اللامركزية المنشودة، والمعنى إن وضوح الرؤية والمذهب الديني، مما يستوعب ويتجاوز مخاطر المركزية التخطيطية واللامركزية الإدارية، ويحافظ على تماسك صف الحركة رغم الاستقلال الذاتي الذي ستتمتع به مكوناتها وقطاعاتها، والحق إن الأشكال المقترحة من التنظيم والاتصال تجعل الحركة حاضرة ومستعصية في نفس الوقت، فهي حاضرة في كل مجال ذي جدوى ومغزى من حيث قدرتها على إبلاغ كلمتها للجميع، وهي مستعصية من حيث استحالة حشرها في ركن ضيِّق يمكن كبتها فيه بعد ذلك، لأن بنيتها رؤيتها النهائية للوجود وبنيتها التنظيمية المرنة تحميها من الكثير من مخاطر تلك الشرور.
من هذا فإن المفهوم الذي نصوغ ملامحه تباعاً، لطبيعة الولاية العامة في أطرها التنظيمية والاتصالية، ينتهي إلى إن ولاية الحركة العامة، وهي ترعي إنفاذ «الأوامر» الإلهية في الاجتماع البشري الأرضي، فإنها تبني الولايات التنظيمية بما يشكل في بنى وأطر تنظيمية «لا مركزية»، يكون فيها من التكامل والتشارك والتعاون والتنسيق، ما يمكن الولاية العامة من الاطلاع والإحاطة بأمانة التكليف الديني وتبليغ دعوته والدفاع عنه، في السياق الواقعي لابتلاءات الزمان والمكان، بما يعالج النوازل والوقائع المتجددة التي تواجه الحركة، فتنشأ عندئذ ولايات ذات «مراكز متعددة» تستجيب لجملة التكاليف الدينية المتجددة، تأصيلاً على مبدأ الشراكة في «الأمر» العام، ولما كانت حاجات المكان والزمان وضروراته وابتلاءاته متجددة ومتغيرة، فإن سمة ومسمى ولاية الحركة هي المرونة والتجدد حسب طبيعة المكان والزمان ونوع الابتلاء الراهن، مما يعني تناهي هذه الولايات والمسؤوليات، ويعني أيضاً ضرورة مراجعتها وإعادة ترتيبها بحسب الابتلاء الأكثر إلحاحاً في ذلك الظرف بالذات، بمعنى أن علاقات الولاية عن التكاليف تتجدد وتتعدد، وبالتالي فإن الولايات التنظيمية تقدر بقدرها وتنتهي بملابساتها. فضلاً عن أنها ولايات متنوعة ومتمايزة عن بعضها، وإنما تتوحد وتجتمع هناك في الاجتهاد المجمع عليه من قبل جمهور الحركة، في «الهيئة القيادية» في هيئتها المتجددة كما سيأتي.
والحق إن هذه السمة المميزة لتنظيم الولاية العامة في الحركة، تتجلى في أن ولاية الحركة العامة لا تنتهي، ولا تتحدد موضوعاتها بصورة مسبقة، فكل فعل أو نشاط يقوم به الأفراد في الحركة، يمكن أن يكون موضوعاً لولاية قطاع خاص، وكل تنظيم لأي فعل أو نشاط استخلافي لا يمكنه أن يدوم أبداً، ولا بد من إعادة النظر فيه مرة من بعد إقراره، وهكذا الأمر، فمثلاً، بالنسبة إلى إقامة الجمعيات التطوعية، ففي العادة تترك الحركة هذه الأنشطة لمبادرات الأفراد وفق توجهات متقيدة إجمالاً بتقاليد الحركة وأدبياتها ومذهبها الديني العام، الذي هو حصيلة التجديد الفقهي والتجارب الحركية والأذواق والخبرات المتراكمة عبر الأجيال، أما عندما تكثر المشكلات في علاقات هكذا نشاط، فإنه يتعين عندئذ تدخل الولاية الحركية لتضع عهداً خاصاً بالعمل الطوعي، تحدد فيه نطاق عمله وما يجوز فعله لمن يريد القيام به. وبعد مدة من الزمن، تجد الولاية الحركية أن العهد المعمول به لم يعد متوافقاً مع متطلبات هكذا نشاط حركي في مقاصد أو وسائلها. فتعمد إلى تجديده وإصلاحه، أو إلى وضع عهد آخر بدلاً منه. وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر الأنشطة الاستخلافية التي يقوم بها الأفراد في الحركة أو الانتقال، أو الإنتاج الصناعي، أو التطبيب، أو التعليم، أو الإعلام، أو أنشاء الجمعيات، أو العمل المأجور، أو سواها من الأنشطة، فالعمل الحركي في المجتمع عبارة عن ورشة دائمة، كلما تزايد عدد أفراد الحركة وتكاثرت علاقاتهم ومصالحهم وتنامت قدراتهم ورغباتهم وأنشطهم، تعاظمت أطرها التنظيمية وزادت مساحاتها ومهماتها وتضاعفت شروط المشاركة فيها.
وهكذا فإن نظام الولاية على الحركة، يقوم على مبدأ بسط الولاية بين الناس كافة، بحسب ابتلاء الواقع الظرفي، أما المركزية فتكون مركزية مناطة بالاجتهاد المجمع عليه من قبل جمهور الحركة، والأصل في ذلك ظهور علاقات الولاية العامة القائمة على أمر شؤون الحركة في مجموعها وكأنها «شركة مساهمة عامة» يشارك فيها سائر الأعضاء الملتزمون المبايعون بصف الحركة وعهدها، كلٌّ بحسب استطاعته وقدراته ومواهبه وإخلاصه الديني، تؤسس على هيئة مجموعة عهود شراكة وسلسلة من الولايات والقطاعات والأمانات والتكليفات، فالعهد الأكبر، أي عهد الإيمان هو عهد بين الفرد وربه وركنه الالتزام بـ«أوامر» الدين والاستهداء بهديه، أما ميثاق البيعة العام «النظام الأساسي» فهو عهد على العمل المشترك على تحقيق مضامين الإيمان في الواقع التاريخي، كما أنه الميثاق المكتوب المفسر لعلاقات الولايات وقطاعاتها التنظيمية في الحركة وبعد تقديرها وإحداث التعاهد بينها، فتظهر الولاية العامة «للأمر» الحركي في جانب منها على أنها الصلة بين أفراد الحركة والشركاء، وبين مكلفين على جانب أو جوانب من موضاعات هذه الشراكة العامة التي تعتبر القيام بها، ما هو إلا وفاء بـ«أمر» «من»الأمور «المحررة بالاجتهاد من الرؤية الإسلامية».
وبناءً على ما تقدم، فإننا نقترح نسقاً من القطاعات التنظيمية المخصوصة، كإطار لا مركزي للولاية العامة في الحركة فيكون النظر إليها بصورة متكاملة تأسيساً على أصل الشراكة العامة، في الولاية العامة، فالولاية العامة التنظيمية لشؤون التجديد والفكر ونظم التعليم تعد ولاية ، والولاية على الاجتماع والعمران بتزكية الأفراد يعد ولاية ، والولاية على الاقتصاد والعدالة والاجتماعية يعد ولاية، والولاية على الثقافة والإعلام والفنون يعد ولاية، فكلها ولايات وهكذا. بيد أن هذه «فالولايات» القطاعية ليست جهة تشرع للجماعة خطتها في الحياة الأرضية، بل تنتهي وظيفتها في الاجتهاد في التكاليف الدينية والنوازل الاجتماعية المراد هدايتها والتنسيق بينها والشهادة عليها ورعايتها، فلا تتحول إلى ولاية مستبدة بآرائها الخاصة، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن «الولاية» القطاعية، وهي تجاهد تجسير ورعاية الرؤى الدينية في الاجتماع، فإنها تقترح العهود والمواثيق المتجددة في الزمان والمكان مسؤوليات ووظائف إلى أمانات حركية، تكون أمانات مستحدثة، أو مؤسسات مشاركة لولايات القطاع المعين تشاركه القيام بتكاليف الدين، وهي الولايات القطاعية التي تجاز خططها لاحقاً بواسطة إجماع هيئة القيادة الجامعة لصف سائر القطاعات في مجموعها، استجابة لابتلاءات وحاجات وضروريات الزمان والمكان، مما يجعلها أطراً ولائية تنفيذية لا مركزية من جهة التخطيط والإدارة معاً، ولكنها متكاملة الوظائف الحياتية، تضطلع شراكة بإقامة الاستخلاف والتمكين للدين، والدفاع عنه وتبليغ دعوته وتستجيب للنوازل والوقائع المتجددة في التاريخ والاجتماع. فتختار قيادتها اختياراً مباشراً بواسطة شورى مؤتمرات قطاعية عامة، كل في اختصاصه الوظيفي لجمع أفراد الحركة المختصون، يعهدون لأمناء القطاعات عهداً بالولاية ويتبعونه بالطاعة أهم، ما التزموا بالخطة المشروعة والإجماع المحرر بين سائر الأعضاء، حتى تضطلع القطاعات المعنية بمسؤوليتها الدينية في الواقع، أما هؤلاء الأمناء، فإنهم يكونون نسقاً من الأمانات في سائر علاقات القطاع المعني، وهي الأمانات التي تسهم متكاملة مع نظيرتها في القطاعات الأخرى، على قيادة وتوجيه الاجتماع الحركي في مجموعه نحو تغيير البنى والعلاقات والمفاهيم لتتفق وهدي الرسالة مما يحقق السعي نحو تحقيق الكمال الأخلاقي وبناء الاجتماع وإعادة بنائه على أس الرسالة، فهي «ولايات» قطاعية تقصد وتسعى نحو مُثُلِها العليا وتجاهد بها في مسيرتها القاصدة إلى الله تعالى.
أما المبدأ الذي تعمل بهذه القطاعات، فهو مبدأ الشركة في الولاية بحسب المسؤولية المكلف بها، دون امتياز ديني أو عرقي، باعتبار أن الأفراد والأمناء والولاة على الأمانات شركاء فيما يخص ولا يهتم، وكذلك الحال في ولاية أمانات التكليف التي تقوم بعمل ما من أعمال القطاعات الحركية، فإن لها ذات الشراكة في الولاية على الوظائف المطلوبة فيما يخص الولاية الوظيفية القطاعية المعينة، أما الولاية الأصلية فإنهم جميعاً يلزمونها من الرسالة المنزلة، كما أن الشراكة في الولاية تتحدد بموجب عهد «البيعة»، المجسّد في الميثاق العام «النظام السياسي» بين كافة أفراد الحركة ، فالبيعة هنا شراكة محدودة بعهد التكليف وشروطه، وتسقط متى تجاوز الولاة حدود عهدهم وولايتهم في تحقيق الغايات الناجمة من الرسالة المنزلة، في حين أن الولاة على القطاعات لهم حق الشراكة فيما يخص الولاية القطاعية التنفيذية، ذلك أن موضوعها العلم التخصصي والكفاءة في الأداء، بما يمكن معه القول إن مفهوم «أمانة» الولاية هو الطريقة، التي يتم بها وفي حدودها تجميع طاقات أفراد الحركة وتسخيرها وتوزيعها، لتعمل من أجل إقامة مقاصد الاستخلاف والتمكين، وتزويد هؤلاء بالاختصاصات والمهارات والولاية لمساعدتهم على أداء أعمالهم، فالانتظام في الولاية هو توزيع للمسؤوليات والتكاليف، بين كافة أفراد الحركة بطريقة تضمن تحقيق أقصى درجة ممكنة من التوافق والكفاءة والشراكة بينهم.
أما الولايات القطاعية التي نراها انساقاً تنظيمية فهي على النحو التالي:ــ
أولاً: قطاع المذهب والمعارف ونظم التعليم.
ثانياّ: قطاع الاجتماع والعمران البشري.
ثالثاً: قطاع الاقتصاد والمعاش.
رابعاً: قطاع شؤون السياسة والدولة والقانون .
خامساً: قطاع الإعلام والثقافة والفنون.
سادساً: قطاع الشباب والطلاب.
أما إذا تكونت هذه القطاعات اللامركزية، وفق عهد عام يقرر التشاور والإجماع والمشاركة، وما تحتاجه القطاعات من آيات الله المنزلة في الاجتماع وفي الكون، فقامت القطاعات المختلفة: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتزكوية والتعليمية لتحقيق تلك التكاليف والتوجيهات في صفحة الواقع، فإنها تشكل بتكاملها عهود الولاية في القطاعات التنظيمية التي يكون إقرارها، فيراقب ويقترح ويحاسب الأفراد في كل قطاع من قطاعاتها، من خلال مؤتمرات عامة، ومجالس شورى منتخبة، وأمانات تنفيذية مختصة بكل قطاع، مدى التزام خياراتهم على مستويات الأمانات جميعها، بمحررات الإجماع العام أو المعني، ولهم حق عزل الولاة الأمناء على القطاعات المختصة، عند مخالفة العهد المقرر.
فمن جهة تراتيبها التنظيمية فإننا نجد هناك أولاً: مؤتمر القطاع، وهو أعلى ولاية تنظيمية في القطاع، وتضم عضويته سائر المنضوين تحت لواء القطاع من الراغبين من الأفراد، مهامه في اختيار أمين القطاع، وإجازة الخطط المفترض نفاذها في حدود القطاع...الخ.
وهناك ثانياً: مجلس شورى القطاع، وهو ثاني أعلى ولاية في القطاع، وينتهي عمله في التشريع والرقابة القطاعية، ورفع التوصيات إلى المؤتمر العام للقطاع، ونحوها من اختصاصات مجالس الشورى في العرف الحركي.
وهناك ثالثاً: أمانات القطاع، وتتكون من نسق الأمانات التي تتناسب مع وظائف هذا القطاع أو ذاك.
أما الإطار التوحيدي للجمع بين علاقات هذه القطاعات، فهو إطار الهيئة القيادة الجامعة، بوصفه «الإطار» الموحد والمنسق بين ولاية القطاعات الحركة المذكورة، وما ذلك إلا لأنه تعبير عن ولاية أمة الحركة ككل، ويأتي بعد ولاية النص الديني الأعلى، ولذلك فإن ولايته أسمى من ولاية القطاعات على حدة، لطبيعتها الوظيفية المخصوصة فطالما أن هيئة القيادة هي تعبير عن الولاية العامة لأمة الحركة، فإن ولايته أعلى من ولاية كل قطاع على حدة، على أن يكون عوناً لولاية القطاعات المخصوصة يهديها إلى بلوغ غايتها، بيد أنه تعبير عن الإرادة العامة لأعضاء الحركة على بلوغ ربوع السودان ككل. والمعنى أنه يأتي من جهة القيمة التنظيمية تعبيراً تالياً لولاية النص الديني وعهد البيعة والميثاق العام، ولذلك فهو جهة التنسيق بين عمل سائر القطاعات المخصوصة، فيشرح برامجها وعملها القطاعي المعني وطبيعة أماناتها، وهكذا.
وتلتئم هيئته «القيادية» الهادية، من الأمين العام للحركة الذي يرأسها، ونائبه، وأمناء القطاعات المذكورة ونوابهم وأمناء أمانتهم، فضلاً عن أعضاء الهيئة القيادية المنتخبين، وفقاً لنظام دوائر انتخابية معدودة وموزعة بالتناسب مع أعداد أعضاء الحركة في سائر بلاد السودان، وهو مجلس مكتمل الأركان متصل الإنعقاد، ومهتمة تنسيق الخطة العامة لأنساق القطاعات المخصوصة النطاق، ويصوغ برنامج اجتهاد الحركة العام وتوجيهاتها المستقبلية، كما يقرر العلاقات الخارجية للحركة مع القوى الأخرى داخل وخارج البلاد، فضلاً عن إجازة القرارات الكبرى ذات الأثر الأكثر عمومية على الحياة العامة للمجتمع، وإجازة العهد العام لسائر القطاعات وتعديلها، والمحاسبة للقيادات الحركية في مستوياتها القطاعية، أما أجله فبأجل فترة اختيار الأعضاء يؤجل، ونراها عامين قابلة للتجديد لمرة واحدة.
أما «الأمين العام» والذي هو رمز الحركة الفكري، وإمام مذهبها في الحياة، فيرأس الهيئة القيادية، ويكون اختياره عن طريق مبايعة مجموع أعضاء الحركة له على طول البلاد وعرضها، أي أن طريقة اختيار «الأمين العام» تتم بواسطة اختيار سائر أفراد الحركة في البلاد، ولا ينعقد العهد بولايته بمشروع من ناخبين قلة حتى ولو كانت تلك القلة هي عضوية الهيئة القيادية، إلاّ بإجماع جمهور الحركة ككل، ولا يعيبها أنها طريقة قد تؤدي إلى استئثار «الأمين العام» واحتمال الاعتداء على ولاية القطاعات واختصاصات الهيئة القيادية، معتمدًا على ما يتمتع به من تأييد جمهور الحركة ومستنداً إلى أنه مختار من جماهير الحركة في مجموعها بخلاف أعضاء الهيئة القيادية، الذين لا يمثل كل منهم إلاّ القطاع أو الدائرة التي ولتهم، ذلك أن وظائف «الأمين العام» وصلاحياته وولايته مما يتم تقريره ابتداءً في ميثاق البيعة التأسيسي، الذي تصفه هيئة القيادة وتمضيه جماهير الحركة في مجموعها، فليس ثمة تخوف من هيمنته، أما إذا حدثت الهيمنة فالإمكان عزله وللهيئة القيادية طرح الثقة فيه ثم لا تكتمل تلك العملية إلاّ إذا أمضاها جمهور الحركة في استفتاء عام، فيكون أكثر التزاماً بعهد البيعة، وإلا يعتبر عدم التصديق على عزله من قبل جمهور الحركة تجديداً لعهد البيعة له منها، والحق أن هذا الإجراء أعني اختيار «الأمين العام» وفقاً لعهد سابق تمضيه الحركة ويحرره مجلس الهيئة القيادية، ويمضيه أفراد الحركة إجماعاً، مما يتجاوز القول بضرورة اختيار «الأمين العام» عن طريق هيئة القيادة لأن «الأمين العام» عندئذ يكون خاضعاً لإرادتها، وآلة في يد القوى التي تشكل اتجاهات الرأي فيها، وبالتالي يفقد المكانة الواجبة له كرمز الحركة الأشهر، كما يضعف الولاية التنفيذية في مقابل الولاية الرقابية، وإذا وضعنا في الاعتبار من الناحية العلمية أن «الأمين العام» لا يكون والياً إلاّ إذا كانت هناك جهة تزكيه وتقدمه للجمهور أدركنا مدى ميل «الأمين العام» للالتزام بعهد البيعة من ناحية، وتمسكه ببرنامجه ومذهبه الفكري الذي جاء به من ناحية أخرى، فالاختيار يكون شراكة تمثيل للحركة، إليها ترجع الولاية لأنها هي المصدر الأعلى والحجة العليا في الولاية بعد ولاية النص الديني.
أما المسمى العام الذي نراه لهذا الإطار التنظيمي، فلابد أن يتبنى نهج الإصلاح بعد الثورة، ومرجعية الإسلام بعد أن طاله الاتهام بالاستبداد لاستبداد النظام الراهن، ولأن هذه المعاني المرجوة مما لا يحتويها معنى مفهوم «الحرب»، بل هي حركة عامة وشاملة في مجالات الحياة الاجتماعية المختلفة، فلا بد للمسمى أن يعبِّر عن معنى الحركية والديناميكية، ولذلك نحن نراه: «حركة الإصلاح الإسلامي».
خاتمة :ــ
إن هكذا فقه مؤسسي متجدد، مما يجنب الحركة سلبيات الإدارة المركزية التي تؤدي إلى عزلتها عن المجتمع بانشغالها بذاتها، بكل ما يعنيه ذلك القصور في مجالات حيوية مثل المجالات المعرفية والاجتماعية والاقتصادية المعنية بالرؤية الدينية، والتثقف الفكري والتوصل الاجتماعي، وماهية العدالة الاجتماعية... الخ، وبكلمة واحدة القصور في مدى الإصلاح الاجتماعي، هذا فضلاً عن عدم توقف نجاح الحركة أو فاعليتها القيادية في أعلى الهرم بقيمتها الرمزية، ذلك أنه في التنظيمات التقليدية يؤدي «حبس» القيادة مثلاً إلى شل العمل الحركي في مجموعة ربما القضاء عليه بينما الأمر في المنظومات المقترحة اللامركزية مختلفة نوعاً ما لأنه يُمكّن الحركة من تجديد أساليبها بسرعة قياسية، وبناء هيئات وهياكل مؤسسية لمقاصد مؤقتة، ثم يكون حلها فور تحقيق تلك المقاصد، دون الحاجة إلى بنا مؤسسي واحد جامد مما يحول بين قراءة فلسفتها الإدارية من أعدائها بشكل يمكنهم من الإضرار به ، والمعنى إن التنظيمات ذات البناء الهرمي الواحد المتشعب تصاب بتصدع بعد كل مدافعة خاسرة وقد تنهار نهائياً، بينما تمتاز التنظيمات المرنة بالقدرة على امتصاص المدافعات السالبة وعزلها، والتعافي من آثارها لأن العلاقات فيها تنسيقيه وليست هرمية ميكانيكية، أفقية بينية لا تراتبية رأسية.