فعلتها جوبا. أحكمت التوقيت بعد أن بيَّتت التدبير، فكانت المفاجأة من نصيب
الخرطوم، إذ بينما كان وفدا السودان وجنوب السودان يناوران ويداوران في
جولة تفاوض برعاية ملس زيناوي ومباركة الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا
لإنجاز ما لم ينجز من قضايا السلام العالقة بينهما، كان هجوم الجنوييين
المباغت على هجليج الشمالية، وبذا ضمنوا نتيجة المُدبَّر فاحتلوها.
لم يكن بوسع الخرطوم إلا تلقِّي الخديعة والخسارة والإهانة بغضبٍ يناسب حجم
ما تلقته. البرلمان السوداني أعلن "حكومة جنوب السودان عدواً"، وقرر العمل
على إسقاطها. الحكومة أعلنت أن لا تفاوض مع الجنوبيين قبل انسحابهم من
هجليج. أُعلن النفيرالشعبي، ووجِّه الجيش لاستعادة المُحتل من التراب
الوطني. اتسعت رقعة المعارك فتعدَّت هجليج ففُتحت جبهات حدودية أخرى، ومنها
ما فتحها الجنوبيون بالقرب من أبيي... وصل الأمر حد مخاطبة الرئيس
السوداني شعبه قائلاً: "هناك خياران، إما أن ننتهي في جوبا، أو ينتهون في
الخرطوم، وحدود السودان القديمة لا تسعنا نحن الإثنين... هجليج ليست
المعركة النهائية، بل ستكون في جوبا"..
لماذا هجليج؟!
قبل أعوامٍ سبعةٍ عُقدت إتفاقية سلامٍ بين السودان وجنوبه في نيفاشا
الكينية. كان المفترض أن تنهي أطول حربٍ أهليةٍ شهدتها القارة الإفريقية،
كانت قد رافقت تقريباً كامل العقود التي أعقبت استقلال السودان، فاستنزفت
إمكانياته وأخَّرت فرص تطوره وسفحت دم أبنائه وأثقلت كاهل شعبه، الأمر الذي
أقنع نخباً مؤثرةً وما لايستهان به من قطاعاتٍ شماليةٍ شعبيةٍ واسعةٍ
بوجوب الانفكاك عن الجنوب والخلاص من أوزاره، وبالتالي سهَّل هذا من
استجابة الخرطوم لضغوط رعاة اتفاقية نيفاشا الغربيين والقبول باشتراطاتها
الساعية أصلاً لفصل الجنوب.
وإذ قبلت بها لم تحسن قبولاً فابتلعت ألغام القضايا العالقة التي لم تحسمها
الاتفاقية، أو التي ربما شاء مهندسوها، أو فارضوها، زرعها لأمرٍ كان في
نفس رعاتها، ومنها، ترسيم الحدود، استفتاء أبيي، عائدات مرور النفط عبر
الشمال، الديون، الجنسية، فمسألة ما تدعوها الاتفاقية "المشورة" في منطقتي
جنوبي النيل الأزرق وجنوب كردفان...
عام 2005 كانت نيفاشا، و2011 تم الانفصال، و2012 العودة إلى الحرب باحتلال
هجليج، بمعنى أن القضايا المعلقة قد بدأت تفعل فعلها... أما لماذا هجليج
بالذات؟ فلأن الانفصال كان قد حرم السودان 75 بالمئة من نفطه ونصف الـ25
بالمئة المتبقي منه في هجليج، وبالتالي حرمانه منه يعادل ضربةً قاسيةً
لاقتصاده الغارق في أوجاعه، ويسهم في تعطيل عجلة التنمية السودانية، وهذا
واحد من العوامل التي ترى قوى إقليميةٍ ودوليةٍ معاديةٍ للنظام أنها قد
تسرِّع في إمكانية إسقاطه.
كما أنه لا يخفى أن خلف ثغرة هجليج تكتيكا جنوبيا يهدف إلى إجبار الخرطوم
على مقايضتها بأبيي والتي بدورها لا تخلو من النفط؛ كما لا ننسى أن أغلب
حكام جوبا أو الممسكين بالقرار فيها هم من دينكا أبيي وبدون أبيي جنوبيةٍ
لن يتسنى لهؤلاء مزيد من طول الإقامة في سدة الحكم... وهناك من الأسباب
الأخرى ما قد تتفق في إيجادها كل من الخرطوم وجوبا، هاتين اللتين درجتا على
دعم الحركات والأحزاب والقوى المعارضة والمتمردة لدى كلٍ منهما بهدف
استنزافه، وهروباً من الأزمات والتحديات الداخلية أو التغلب عليها عبر حشد
الداخل لمواجهة الخطر الخارجي، الأمر الذي ينبئ بأزمةٍ ستطول حتى وإن
استعادت الخرطوم هجليج وهو المرجَّح طال الأمر أم قصر... ستطول، لا سيما
ونحن نسمع المتحدث باسم حكومة جوبا يردد قولاً من مثل، نحن "حتى الآن لم
نتجاوزأبداً حدودنا مع السودان"! ويتحدث الإسرائيليون عن تدارسهم الاستجابة
لطلب أممي منهم إرسال "قوة شرطية" إلى جنوب السودان"!.
هناك مفارقة لا يمكن التغاضي عنها بالنسبة لمن يتابع الهم السوداني ويلاحق
آخر تجلياته، وهي أن الجنوبيين لم يقدموا على ما أقدموا عليه بدون مباركة
غربيةٍ، بالإضافة إلى ضمانهم لأمرين:
أولهما تعويض أمريكي إسرائيلي لخسائرهم جراء عواقب إيقافهم لتصدير نفطهم
عبرالشمال الذي لا من إمكانية راهنة لتصديره إلا عبره، وبالتالي حرمان
الشمال من عائدات مروره، وما يتلو هذا من تفاقم أزمته الاقتصادية، أو ما
أشرنا إليه آنفاً، والتي لا شك وأنها سوف تؤثر فيما تؤثر أيضاً على قدراته
العسكرية في مواجهة الحركات المتمردة وهذه الحرب التي فرضت عليه الآن والتي
لا يمكنه إلا خوضها.
وثانياً ضمان دعمٍ شعبي جنوبي شامل لم تستثنى منه قوى المعارضة على
اختلافها، إذ غدا جنوب السودان بكامله يعيش حالة تعبئة عامة. هذا جنوباً،
أما شمالاً، فلعل السودان يحظى بأغرب معارضة عرفتها الأمم، ففي حين توحِّد
الأخطار الخارجية عادةً الشعوب خلف جيوشها وتدفع قوى المعارضة فيها لأن تضع
خلافاتها مع أنظمتها جانبا إلى ما بعد درئها، نجد أن أغلب قوى المعارضة
السودانية تبدو المتموضع أكثر في موقع الشامت، أو الذي يكاد يكون كل همه
إدانة النظام، وحتى ترداد بعضها بعضاً من مزاعم الجنوبيين المحتلين لجزءٍ
من التراب السوداني!
لقد كشفت ثغرة نيفاشا فيما كشفت أن السودان الذي يشهد في هجليج أولى
انفجارات ألغام نيفاشا، التي لم يحسن بداية تفادي زرعها ولا هو لاحقاً حاول
نزع فتيلها قبل موافقته على إجراء استفتاء فصل جنوبه، لا يمتلك
الإستراتيجية المفترضة لمواجهة مشاكله المتوقعة منذ البداية مع هذا الجنوب
المعادي، هذا الذي تسيطر عليه نخبة عنصرية تربَّت على العداء لهويتة
العربية في ظل أيام الاستعمار البريطاني ورضعت حقدها الدفين حتى الثمالة في
كنف تحريضٍ تليدٍ للإرساليات التبشيرية الغربية، وحظيت حركتها الانفصالية
إبان عقود الحرب الأهلية وحتى إتمام الانفصال بالرعاية والدعم الكاملين من
أعداء الأمة العربية، الغربيين، والإسرائيليين، ومتطرفي الأفرقة في دول
الجوار، واليوم هي سلطة جاهزة لتكون أداةً لعرّابيها هؤلاء الساعين لتفتيت
السودان، وكل الطامحين لنسف هذا الجسر الحضاري الذي يربط العرب بالدائرة
الإفريقية.
ولعل فيما نمى من تسليمٍ للملف مرة أخرى لرجل مثل غازي صلاح الدين
العتباني، الذي كان في يده أيام مباحثات مشاكوس وسحب منه في نيفاشا، ما قد
ينبئ بمحاولةٍ متأخرةٍ لتدارك غياب مثل هذه الإستراتيجية...
السودان في هجليج وأخواتها لا يواجه جيش سلفا كير ميراديت وإنما الغرب
وإسرائيله وأفريقييهم، والسؤال المستوجب في مثل هكذا حالة، والذي لا تصعب
الإجابة عليه، هو: وأين العرب؟!.
عبداللطيف مهنا