يعتبر الغرق ثالث أهمّ أسباب المحدثة للموت غير المتعمدة، ويلتهم النيل سنوياً عدداً كبيراً منهم نسبة إلى أن الأطفال وخاصة الذكور الأكثر ذهاباً إلى الشواطئ وتحدث الوفاة غرقاً فى لحظة غفلة من رقابة الآباء للأبناء، ودائماً ما تنتج الوفاة غرقاً لحظياً أو بالاختناق، وهي الحالة يستنشق فيها الإنسان ما يكفي من الماء لاستنزاف الأكسجين فى رئتيه، الشىء الذي يؤدي إلى التأثير على ضخ الأكسجين للمخ، بالتالي يتوفي الإنسان مثأثراً بذلك خلال ساعة رغم أنه قد لا يبدو عليه أعراض الغرق.
ومما أشرت إليه أدلف إلى وفاة تلاميذ محلية (البحيرة) بولاية نهر النيل غرقاً أثناء استقلالهم لـ(مركِب الموت) التي كانت تقلهم نحو مدرستهم لتلقي التحصيل الأكاديمي، فهذه الحادثة أدخلتني فى حزن عميق ظللت على إثره أتسأل هل لو كان النيل يعلم أنه سيخلف كارثة كبيرة فى تلك المنطقة كان ابتلع هؤلاء الأطفال الأبرياء الذين كل ذنبهم أنهم كانوا يبحثون عن مستقبلهم التعليمي رغماً عن المعاناة الكبيرة التي يعانونها يومياً مجيئاً وذهاباً فى ظل ضائقة وظروف اقتصادية قاهرة، ولو كان النيل يعلم أنه سيكون سبباً فى ألم وحزن وحسرة عدد من الأمهات والآباء الذين يكابدون المشاق لتمزيق فواتير كثيرة لا حصر لها ولا عد، مضافاً إليها الوقوف لساعات فى انتظار المواصلات وغيرها من الأشياء الضرورية لتسيير الحياة المهم أنه يعود إلى المنزل منهكاً تمام الانهاك ليرتاح قليلاً ثم يبدأ رحلة البحث المضني عن (لقمة العيش) بكرامة، ومع هذا وذاك يحرم نفسه من أبسط الأشياء حتى يستطيع أن يوفر مستلزمات البيت الأطفال لا سيما أنهم صغاراً لا يعرفون كلمة (مافي)، وفى غمرة ذلك تتوالى عليه الأيام سريعاً وتبدأ المدارس فى الدراسة ثم يدخل مباشرة إلى شراء خروف عيد الأضحي المبارك، وعلى ذلك النحو فجعت أكثر من (22) أسرة برحيل أطفالهم بشكل مفاجئ لم يكن يخطر على البال نهائياً، هكذا وعدت تلك الأسر أطفالها فى الصباح الباكر بابتسامة عريضة والأمهات يطبعن فى خدودهم قبلات تعبيراً عن حنان عميق ومحبة متجزره فى الدواخل هكذا منحت كل أم من أمهات التلاميذ الغرقي الإحساس بالأمان قبل التوجه إلى (مركب الموت) الذي أخذ أبعاداً فى المجتمع والإعلام الخارجي الذي أولي بالحادث اهتماماً أكثر من الأجهزة الإعلامية الرسمية والقنوات الفضائية التي كانت لحظة وقع الحدث المؤسف حقاً تبث فى الأغاني دون حياء أو خجل فى حين أن أفردت القنوات الفضائية العربية مساحات كبيرة، فشتان ما بين قنواتنا السودانية الغنائية وقناتي (الجزيرة) و(العربية) اللتين لا نملك إلا أن نقول لإدارتهما شكراً لكم على عكس المأساة.
حقيقة عش الشعب السوداني كارثة يصعب على الإنسان وصفها بأي طريقة، وذلك يعود إلى أن أي قلب يحمل فى دواخله ذرة من الإنسانية لن يتحمل تفاصيلها المحزنة، المؤلمة، المريرة، والمؤسفة جداً، هذا بالنسبة للعامة فما بالكم وقلوب أمهات أولئك الأطفال الأبرياء، وقطعاً الأمهات تعرفهن ماذا يريد أطفالهن عند النظر إليهم فقط، نعم أنهن لا يحتاجن للأشعة أو التحاليل لاكتشاف هذه الحقيقة، لذا عزائي الوحيد لأمهات الضحايا وأسرهم هو أن الله سبحانه وتعالي موجود، وبقدر ما أنه سطر ذلك القدر، فإنه قادر على أن يصبركم على مصاب غرق تلاميذكم بمحلية (البحيرة) بولاية نهر النيل، وبالمقابل فإن عيون الأطفال الأبرياء كانت تنظر إلى المستقبل المجهول ويحدوها فى ذات الأمل لغد مشرق دون أن يابهوا بالمعاناة اليومية للتحصيل الأكاديمي.
أكثر ما حز فى نفسي الصور الجماعية والمشاهدات المؤثرة من العزاء، وألمتني كثيراً صورة (الطرحة) الخاصة باحدي التلاميذات الغريقات وهي عالقة فى المركب الذي أقلهن، بالإضافة إلى الشجرة التي قيل أن (مركب الموت) أصطدم بها، وحزنت جداً للرواية القائلة : (إن الشقيقه الكبري للتلميذات الخمس قد نجت إلا أن استغاثة شقيقاتها جعلتها تعود للمياه مرة أخري لإنقاذهن من حالة الغرق، هكذا حاولت تلك الطفلة البرئية التشبث بصيص أمل فى نجاتها ونجاة شقيقتها)، وكما يقولون : (الغريق بتعلق بي قشة)، إلا أن التيار كان جارفاً وأكبر بكثير من طاقتهن وقواهن.
تأثيرات غاية التأثر لهذه الفاجعة الأليمة، ومصدر تاثري نابع من أن أماً فقدت خمس صغيرات من فلذات كبدها، وهن (ﺗﻮﺳل، ﺭﻳﻢ، ﺭيهام، ﺟﻮﺍﻫﺮ وﻓﺎﻃﻤﺔ) فى الحادثة الأليم، والذي وضع الجميع أمام امتحان قاسٍ جداً وابتلاء لم يكن يخطر على بال الأمهات المكلومات، وبالتالي سيظل هذا الحادث محفوراً في ذاكرة التاريخ من واقع أن وفاة (جنيناً) تترك أثراً بالغاً فى نفوس الأمهات، فما بالك أن أماً تفقد خمس فى كسر من الثانية، والمؤسف حقاً فى هذا الحادث الصادم جداً هو أن التلاميذ الغرقى استغلوا (مركب الموت) للعبور من ضفة المسكن إلى ضفة التحصيل الأكاديمي، نعم مضوا نحو المستقبل المجهول بالإبحار عكس التيار، وذلك فى ظل (بحيرة) هائجة ومائجة وبالرغم عن ذلك واصلوا رحلتهم الشاقة نحو هدفهم دون الاكتراث إلى أن البيئة ذات طبيعة وتضاريس صعبة جداً، هكذا غرق الأطفال وهم يشكون تقصير الجميع فى حقهم، ولا أملك مع هذا وذاك إلا أن أدعو الله العلي القدير أن يلهم أهلهم وذويهم الصبر الجميل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق