- أثارت معركة احتلال منطقة هجليج السودانية ثم استردادها مرة أخرى في غضون عشرة أيام غبارا كثيفا لم تنجل كل آثاره بعد؛ إذ مثلت هذه المعركة أعلى نقطة حتى الآن على منحني الصراع بين الدولتين؛ "السودان وجنوب السودان"، الذي يدور بصور عديدة مباشرة وغير مباشرة منذ اليوم الأول لانفصال جنوب السودان.
- حين أعلن الرئيس الجنوبي سلفا كير في خطاب الاحتفال بإعلان الدولة الجديدة أن دولته لن تنسى أبناء جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور وأنها تتعاطف مع قضاياهم ونضالهم؛ كان هذا الإعلان من سلفا كير "بحضور عمر البشير" إيذانا بأن دولة جنوب السودان سوف توفر الملجأ والإسناد للفصائل المتمردة في هذه المناطق ضد الحكم القائم في الخرطوم.
- غير أن هذا السلوك في الوقت نفسه كان يعني أن هناك استمرارية توجهات الحركة الشعبية كحركة تمرد ضد النظم الحاكمة في الخرطوم، في الوقت الذي كان يتوجب فيه على القادة الجدد لدولة الجنوب إدراك أن هذه الدولة الجديدة التي أصبحت عضوا في الأمم المتحدة عليها أن تحترم المواثيق والأعراف الدولية، وأن تضع في قمة أولوياتها بناء مؤسسات الدولة الجديدة وتلبية طموحات مواطنيها في الأمن والاستقرار والتنمية، بدلا من التدخل في شؤون الغير.
- بدايات الأزمة
- تعود الإرهاصات الأولى لحالة الصراع بين الخرطوم وجوبا إلى التمرد الذي أعلنه عبد العزيز الحلو في منطقة جنوب كردفان، احتجاجا على خسارته للانتخابات التي أجريت في مايو 2011 على منصب الوالي في ولاية جنوب كردفان، على الرغم من أن هذه الانتخابات كانت تحت رقابة دولية شهدت بسلامة العملية الانتخابية وصحة نتائجها، وكان على رأس هؤلاء المراقبين مركز كارتر.
- ومن المعروف أن قوات الفرقتين التاسعة والعاشرة اللتين تتمركزان في جنوب كردفان والنيل الأزرق، هما جزء لا يتجزأ "تسليحا وتدريبا وإعاشة" من الجيش الشعبي لدولة جنوب السودان، وإن كانتا تتكونان في غالبيتهما من أبناء جبال النوبة والنيل الأزرق الذين ينتمون جغرافيا إلى شمال السودان، وقد تطور القتال في هاتين المنطقتين حتى أصبح حربا بالوكالة بين دولتي الشمال والجنوب، ثم مضت هذه الحرب خطوات أوسع بعد أن تم إنشاء معسكرات داخل حدود الجنوب لما يعرف باسم تحالف الجبهة الثورية الذي يتكون من ثلاثة فصائل من دارفور تتبع للعدل والمساواة وعبد الواحد نور ومني اركو مناوي، بالإضافة إلى الحركة الشعبية في قطاع الشمال.
- ولكن هذه الحرب بالوكالة من جانب جنوب السودان يبدو أنها كانت تأتي في سياق استراتيجية تهدف إلى تحقيق هدفين أساسيين:
- الأول هو قناعة بعض قادة الجنوب، ولا سيما المجموعة التي تعرف باسم أولاد قرنق، بأن دولة الجنوب لن يكون في مقدورها الاستقرار والاستمرار إلا إذا تم إسقاط النظام الحاكم في الخرطوم، الأمر الذي يحمل في طياته أيضا تفكيك دولة الشمال وإعادة تجزئتها.
- أما الهدف الثاني فهو وإن كان يمثل هدفا إستراتيجيا في حد ذاته، إلا أنه يتساوق أيضا مع الهدف الأول، ويصب في مصلحة تحقيقه، ويتمثل أساسا في حرمان شمال السودان من استغلال وإنتاج المزيد من النفط من مربع "6" في جنوب كردفان الذي يمكنه في غضون سنوات قليلة أن يعوض السودان الكميات التي فقدها بعد انفصال الجنوب، إذا توفرت الاستثمارات وتحقق الأمن والاستقرار، بالإضافة إلى كل من مربع "17" وحقل شارف المجاورين اللذين لم يطورا حتى الآن، ويقعان في إطار المناطق التي يمكنها أن تتأثر بسرعة بالحرب والاضطراب الأمني.
- ويرى بعض المراقبين أن تمرد الحلو وعقار لم يكن في الحقيقة بسبب نتائج الانتخابات، ولكن لحرمان السودان من هذه العوائد، بما يعني السعي إلى تعظيم الأزمة الاقتصادية للشمال، مع ما يحمله ذلك من فرص حدوث اضطرابات اجتماعية وسياسية قد تطيح بالنظام إذا ترافقت مع ضغوط عسكرية على جبهات عدة في وقت واحد. وفي الوقت نفسه فإنه لا يخفى أن أثر هذا العامل النفطي الذي إذا ترك لكي ينمو ويتطور فلا بد أن ينتج أثره على التوازنات بين البلدين، لا سيما إذا عرفنا أن بترول جنوب السودان "كما تشير بعض التقارير" من النوع الناضب في خلال سنوات قليلة تقدرها بعض الدراسات بنحو عقدين من الزمان.
- إيقاف نفط الجنوب
- من المعروف أن جنوب السودان بعد تحوله إلى دولة مستقلة، أصبح يمتلك 75 بالمئة من إجمالي الإنتاج النفطي السوداني الذي كان قد بلغ نحو 470 ألف برميل يوميا. وقد ظلت قضايا النفط وكيفية احتساب رسوم العبور من بين القضايا العالقة بين الشمال والجنوب، حيث لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأنها، بسبب الفجوة الواسعة بين مواقف الطرفين.
- وكان السودان قد أعلن في أكتوبر 2011 مطالبته باحتساب رسم عبور النفط شهريا على الصادرات النفطية لجنوب السودان بما يعادل 36 دولارا للبرميل الواحد، في الوقت الذي أبدى فيه الجنوب عدم استعداده لدفع أكثر من 0.7 دولار. وفي تطور مفاجئ أعلنت دولة جنوب السودان في 20 يناير الماضي إيقاف إنتاج نفطها، الذي يتم تصديره عبر السودان.
- وكانت الأزمة قد تفجرت بعد أن قرر السودان في ديسمبر 2011 أخذ مستحقاته عينيا إلى أن تتم تسوية نهائية بين الطرفين، باعتبار أن جوبا لم تكن تحت ضغط للتوصل إلى اتفاق، بعد مرور أكثر من خمسة أشهر على انفصال الجنوب والسماح بمرور نفطه بدون دفع الرسوم.
- وقد جاءت تصرفات الخرطوم بالاستيلاء على كميات من نفط الجنوب تحت مسمى استيفاء جزء من رسوم العبور لحين الوصول إلى اتفاق بين الطرفين، لكي تمنح دولة جنوب السودان ذريعة قوية لاتخاذ قرار إغلاق الحقول الذي بدا لكثير من المراقبين أنه نوع من الانتحار، بالنظر إلى أن الجنوب يعتمد على مداخيله من النفط بنسبة 98 بالمئة، غير أنه من الواضح أيضا أنه كان يهدف بالأساس إلى حرمان الخرطوم من عائدات رسوم العبور التي تقدر بثلث الميزانية، والتي كان قد سبق للحكومة السودانية اعتمادها، وبذلك يكون القرار الجنوبي ذا طابع سياسي بالأساس، كجزء من عملية الصراع بين الطرفين.
- وقد بدا لبعض الوقت أن الأزمة كما لو كانت تعبيرا عن لعبة عض الأصابع، حيث يكون المهزوم هو من يصرخ أولا. إلا أنه كان هناك أيضا العديد من القيود التي تحدُّ من قدرة كلا الطرفين على التمادي في هذه المناورة الخطرة، خاصة بعد فشل ثلاث جولات من التفاوض في أديس أبابا تحت إشراف الاتحاد الإفريقي، فالجنوب مطالب في هذه الحالة بالسعي لضمان مصادر تمويل تعوضه عن نحو 650 مليون دولار شهريا تمثل عوائده من النفط، وذلك لعدة سنوات حتى يتم إنجاز خط ناقل جديد عبر كينيا أو جيبوتي، وهي مسألة تكتنفها صعوبات هائلة فنية وتمويلية وسوف تستغرق سنوات، وفي المقابل فإن الخرطوم التي تواجه ضائقة اقتصادية غير راغبة في زيادة متاعبها بالنظر للشح المستمر في مواردها بالعملة الصعبة وارتفاع نسبة التضخم، كما أن محاولة إيجاد سبل تمويل جديدة لهذا العجز المستجد في الميزانية عبر الاقتراض من مصادر خارجية، لا يعد أمرا سهلا وتواجهه مصاعب عديدة.
- إذن، لم تكن هناك خيارات واسعة للحركة أمام الطرفين؛ فإما أن يصلا إلى حل، أو أن ينزلقا إلى الحرب، في ظل استمرار التصعيد.. وهذا هو ما حدث مع اجتياح الجنوب لمنطقة هجليج، التي تنتج نحو 60 بالمئة من نفط السودان في الوقت الحالي، والذي يبلغ نحو 115 ألف برميل يوميا توجه للاستهلاك الداخلي، وتحتوي أيضا على محطات التجميع وإعادة الضخ نحو ميناء بورت سودان، الأمر الذي يفسر تدمير القوات الجنوبية لمعظم منشآت هجليج، والتي سوف يحتاج إصلاحها لشهور عديدة، فقد كان الهدف واضحا، وهو حرمان السودان مما تبقى له من نفط، لكي يتساوى بوضعية الجنوب، الذي بدأ يدرك أنه وضع نفسه في مأزق اقتصادي هائل بإغلاق حقوله النفطية، وأراد أن يصدِّر الأزمة نفسها إلى الشمال، مفضلا خيار الهروب إلى الأمام، بديلا عن خيار التفاوض والوصول إلى تفاهمات وحلول وسط.
الأربعاء، 2 مايو 2012
هجليج السودانية.. حرب الموارد وإعادة إنتاج الصراع
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
azsuragalnim19@gmail.com
*الدكتور أسامة عطا جبارة يشرح الإقتصاد السوداني في ظل الحرب*
.......... *تواصل شبكة (أوتار الأصيل) الإخبارية، وصحيفة العريشة الرقمية نشر الحوار الهام مع الخبير في الإقتصاد العالمي الدكتور أسامة عطا جب...
-
بعد وفاة الدكتور (محمد عثمان) متأثراً بـ(الفشل الكلوي) .................. حاول هؤلاء خلق (فتنة) بين...
-
الخرطوم: سراج النعيم وضع الطالب السوداني مهند طه عبدالله إسماعيل البالغ من العمر 27 عاما المحكوم بالإعدام في قت...
-
مطار الخرطوم : سراج النعيم عاد أمس لل...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق