مصطفى عياط
ربما لم يلحظ البعض أن الحرب الدائرة الآن بين شمال وجنوب السودان لم تحظ بأدنى اهتمام من جانب الولايات المتحدة وأوروبا، فالغرب تجاهل تلك الحرب تمامًا، في حين أنه قبل عامين كان يقيم الدنيا ولا يقعدها لمجرد زعم غير مؤكد عن إطلاق رصاصة واحدة في دارفور، ولأجل ذلك أيضًا تمت "جرجرة" الرئيس السوداني عمر البشير وعدد من وزرائه، إلى لائحة المطلوبين من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وقبل ذلك بعدة سنوات كان التمرد في الجنوب هو بؤرة اهتمام الغرب، سياسيًا وحقوقيًا وإغاثيًا، فما الذي تغير؟ ولماذا لم يعد السودان موضع اهتمام اليمين المسيحي في الولايات المتحدة؟ هل تغيرت حقائق الجغرافيا والتاريخ -فجأة- ليسقط السودان من أجندة السياسة الغربية، والأمريكية بشكل خاص؟
الإجابة على كل ما سبق سهلة للغاية، فما يجري في السودان هو بالضبط ما كانت
تريده وتسعى إليه الولايات المتحدة، وهو إسقاط البلاد في مستنقع الفوضى
والحروب، وكان انفصال الجنوب هو الخطوة الأولى، والأصعب، على هذا الطريق،
وبمجرد نجاح تلك الخطوة فإن باقي "حبات العقد سوف تنفرط بشكل آلي"، ولعل
ذلك ما يفسر الإصرار الغربي على المضي قدمًا في إجراء الاستفتاء على انفصال
الجنوب، دون حلّ المشاكل العالقة بين جوبا والخرطوم، وبذلك أصبح جنوب
السودان دولة معترفًا بها من قبل الأمم المتحدة، في حين أن قضايا الحدود
والثروة والنفط، وحتى الجنسية، ما زالت عالقة مع الشمال، فمن المضحك المبكي
أن الدولة الوليدة ما زالت عاجزة حتى الآن عن إيجاد وسائل نقل لإعادة أكثر
من نصف مليون جنوبي يعيشون في الشمال، فما بالك بتوفير سكن وفرص عمل وبنية
تحتية، لاستيعاب ذلك الحشد الهائل؟!.
مأزق وعر
أما على الضفة الأخرى فقد وجدت الخرطوم نفسها فجأة مجردة من ثلثي عائدات النفط، بعدما انتقلت معظم الآبار لدولة الجنوب، كما أن وعود العرب والعجم بضخ المليارات من الدولارات لمساعدة السودان على إعادة بناء اقتصاده تبخرت هي الأخرى، بل إن وعود الولايات المتحدة برفع العقوبات المفروضة على الخرطوم ذهبت أدراج الرياح، وبالتالي لم يكن أمام السودان سوى تحصيل رسوم ضخمة على النفط الجنوبي الذي يمر وينقل عبر أراضيه، باعتبار أنه هو من نقب عنه واستخرجه وشيد أنابيب نقله، وهو ما رفضته جوبا، وفضلت أن توقف الضخ بشكل كلي، مع أن ذلك يعني "انتحارًا اقتصاديًا"، ليس فقط للجنوب وإنما كذلك للشمال، الذي يعتمد بشكل كبير على حصيلة الرسوم التي كان يجنيها مقابل مرور أنابيب نفط الجنوب عبر أراضيه، وصولًا إلى موانئ التصدير على البحر الأحمر.وعندما أبدت الخرطوم صلابة في معركة "عض الأصابع" تلك، انتقل الجنوب لخطوة انتحارية جديدة، من خلال احتلاله لمنطقة "هجليج"، التي تقع داخل حدود الشمال، وتضخ ما يقرب من نصف إنتاج السودان من النفط، كما يتم عبرها ضخ ومعالجة 400 ألف برميل نفط يوميًا، تمثل الجزء الأكبر من إنتاج الشمال والجنوب معًا، وهكذا أراد الجنوب أن يطبق عمليًا شطر بيت الشعر القائل: "فإذا مت عطشان فلا نزل القطر"! وبمعنى آخر، فإن الجنوب أراد أن يمسك بيديه ورقة تفاوضية تجبر الشمال على تقديم تنازلات جوهرية في كافة القضايا العالقة، سواء الخلافات الحدودية أو الخلاف حول منطقة "أبيي" النفطية أو رسوم عبور النفط أو الاتهامات المتبادلة لكل طرف بدعم المتمردين في الضفة الأخرى.
علامات استفهام
وبالطبع فإن السقوط السهل لمنطقة تحظى بتلك الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية يضع "علامة استفهام" كبيرة حول مدى كفاءة وجاهزية الجيش السوداني، خاصة أن المنطقة تعرضت لهجوم مشابه خلال الشهر الماضي، كما أن علامات الاستفهام تمتد لتشمل أيضًا الأطراف الإقليمية والدولية ذات الصلة، التي شاهدت "أجراس الإنذار" تدق بكل قوة، ومع ذلك لم تتحرك بالشكل المناسب لاحتواء التوتر، أما الدول العربية فإنها على ما يبدو أسقطت السودان من حساباتها بشكل كامل، فوعود المساعدات والاستثمارات ما زالت مجرد كلمات، وحتى بالنسبة لجهود الوساطة والتهدئة فقد تولى الاتحاد الأفريقي ذلك الملف بالكامل، واكتفى "العرب الأفارقة" بموقف المتفرج، ولم تتحرك مصر؛ الامتداد والعمق الاستراتيجي الشمالي للسودان، إلا بعدما وصلت الأمور إلى نقطة اللاعودة، وجاء تحركها خجولًا، ومن خلال بوابة الوساطة الإثيوبية، التي رعت في الأسابيع الأخيرة عدة جولات من المفاوضات بين الطرفين.
ومن اللافت للنظر أن هجوم الجنوب على "هجليج" تزامن مع حدوث اختراق مهم في المفاوضات التي كانت جارية بين البلدين في أديس أبابا، حيث جرى الاتفاق بشكل مبدئي على اتفاقية "الحريات الأربع"، بما يتيح لسكان كل بلد حق "التنقل والتملك والسكن والعمل" في البلد الآخر، كما أن الرئيس السوداني عمر البشير كان يستعد لزيارة جوبا، رغم تحذيرات من أطراف متعددة في الخرطوم لإمكانية تعرضه للغدر من قبل الجنوب، وقيامها باعتقاله وتسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية، لكن يبدو أن حكومة "سيلفا كير" غضت الطرف عن كل هذه الإشارات، وأرادت أن تحسم الأمر عسكريًّا، كي تنقذ نفسها من إفلاس وشيك بسبب توقف عائدات النفط منذ يناير الماضي، حيث تشكل 98 بالمئة من إيرادات الجنوب، كما أن اتفاقية "الحريات الأربعة"، التي كان من المفترض أن تخفف حدة الضغوط على جوبا لاستيعاب نصف مليون جنوبي انتهت المهلة التي منحتها لهم الخرطوم لمغادرة أراضيها، قوبلت بانتقادات حادة من قطاع كبير من السودانيين، وعارضتها علنًا قيادات بارزة في الحزب الحاكم، وهو ما دفع البشير للتأكيد على أنها ليست مقدسة وأنها قابلة للمراجعة.
الهروب إلى الأمام
وهكذا فإن "سيلفا كير" وبدلًا من مواجهة السقوط على يد ضباطه وجنوده، الساخطين لعجز الحكومة عن توفير رواتبهم، فضل "الهروب إلى الأمام"، من خلال احتلال "هجليج"، معتقدًا أن ذلك سيحول الغضب المتصاعد بين الجنوبيين بسبب تفشي الفساد والفشل الإداري ونهب عائدات النفط على يد كبار قادة الحركة الشعبية، صوب الشمال، بزعم أنه المسؤول عن كل ذلك، لكن حسابات "سيلفا كير" لم تكن دقيقة، فالرئيس البشير يعاني هو الآخر من انقسامات داخل حزبه الحاكم، ومن احتجاجات شعبية وسياسية متأثرة برياح "ربيع الثورات العربي"، وبذلك فإن احتلال "هجليج" منحه فرصة ذهبية لإعادة توحيد السودانيين خلفه مرة أخرى، خاصة أن الخطوة الجنوبية قوبلت بتنديد دولي وإقليمي واسع، وهو ما شجع الخرطوم على اللجوء للخيار العسكري لتحرير "هجليج"، حيث إن أي تفاوض مع الجنوب في ظل الوضع الحالي، يعني رضوخ الخرطوم لتقديم تنازلات، بحكم أن الحركة الشعبية هي من يحكم قبضته على الأرض.
وهكذا فإن سيناريو الأيام المقبلة سوف يتوقف على مدى قدرة الجيش السوداني على تحرير "هجليج"، فإذا أفلح في ذلك فإن الخرطوم يمكنها العودة إلى مائدة المفاوضات مستندة لقوتها على الأرض، إضافة إلى المأزق الرهيب الذي يعصف بحكومة الجنوب بسبب استمرار توقف تصدير النفط، أما إذا فشلت الخرطوم وتحول الوضع إلى "حرب استنزاف" وفر وكر، فإن ذلك يعني عودة الوضع إلى ما قبل اتفاقية "نيفاشا"، مع فارق بسيط هو أن الحرب لن تكون بين حكومة مركزية وحركة متمردة، وإنما ستكون بين دولتين جارتين، ولا يمكن توقع المدى الذي ستذهب إليه الأمور في تلك الحالة، لكن احتمالات الوصول إلى "حل وسط" تبدو هي الأقرب للمنطق، فالقتال يدور هذه المرة في منطقة تشكل "عصب الاقتصاد" للدولتين، بينما في السابق استطاعت الخرطوم أن تجعل آبار النفط بمأمن عن هجمات متمردي الحركة الشعبية. هذه هي حسابات المنطق والسياسة.. لكن الحروب غالبًا ما تدار بحسابات أبعد ما تكون عن ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق