محمد جميل أحمد
هكذا كانت البداية خطئا استراتيجيا ارتكبته حكومة جنوب السودان باحتلالها لبلدة هجليج النفطية، دون أن تدرك الآثار الخطيرة التي ستترتب على ذلك الخطأ الذي أدى إلى عودة الحرب مجددا. فإذ يدرك النظامان حاجتهما إلى معالجة القضايا العالقة عبر التفاوض والتعاون مع المجتمع الدولي، إلا أن طبيعة الأزمات التي يعيشانها تدفع باستمرار إلى الصراع. ذلك أن تلك الأزمات تبدو لكل مراقب حصيف بمثابة شرك معقد لا يستطيع النظامان تجاوزه ــ خصوصا نظام الخرطوم ـ إلا عبر قابلية كل منهما لرؤية المصالح المشتركة بينهما من خلال المصالح الوطنية الحقيقية، وهي مصالح طالما ظل نظام الخرطوم يطابق بينها وبين رؤيته الآيدلوجية والأمنية ذات السقف المحدود، ومن ثم تراكمت انسدادات خطيرة نتيجة لتلك الرؤية أدت إلى انفصال الجنوب قبل عام. ولا تزال تعيد إنتاج الأزمات.
وفي ظل هذه الأزمات المتبادلة، فإن الحال لن يستقر بين الخرطوم وجوبا. فمن جهة يحتاج النظامان إلى ضرورة اللجوء للتفاوض حول القضايا العالقة عبر رعاية المجتمع الدولي ولا مفر من ذلك. ومن جهة ثانية ثمة احتمال لجنوب آخر عبر الصراع الشمالي الشمالي في منطقة النيل الأزرق وجنوب كردفان، فضلا عن الصراع في دارفور، بين الحكومة السودان والجبهة الثورية، أو مايعرف بتجمع (كاودا). وهو صراع تتعالق حيثياته بكل من النظامين، وترتبط خلفياته بنفس الأسباب التي أدت إلى انفصال الجنوب ؛ ما يعني أن عمق الأزمة يرتبط أكثر بنظام الخرطوم الذي رأى في أجواء الاحتفالات على هامش استرداد (هجليج) ملاذا متوهما لنسيان الواقع المأزوم الذي آل إليه الوضع في شمال السودان، وحاول استثمار بروبغاندا حزبية أثناء أزمة هجليج وبعد استردادها، عبر خلق استقطاب وفرز وطني بين القوى السياسية واتهام بعضها (المؤتمر الشعبي بقيادة حسن الترابي، والحزب الشيوعي السوداني) بالتشكيك في وطنيتها على خلفية الموقف من احتلال هجليج. حتى بدا واضحا أن تلك الاتهامات التي كالها محازبو المؤتمر الوطني لتلك الأحزاب كانت تصطدم بتناقض كبير يعرفه كل سوداني وهو : صمت الحكومة السودانية عن حقها في استرداد مثلث (حلايب) على الحدود المصرية، ومنطقة (الفشخة) على الحدود الأثيوبية، ما يعني أن تأويل الوطنية هنا بحسب رؤية نظام الخرطوم يصب في صراع نفط هجليج التي تنتج يوميا 55 ألف برميل!؟
بيد أن طبيعة الوضع القائم على الصراع بين السودان وجنوب السودان تعكس لنا في صورة أخرى تلك الإشكالية العميقة التي تضع السودان أمام مأزقه الحقيقي أي في نظام الخرطوم الذي أنتج تلك الأزمات ولازال يعيد إنتاجها.
ذلك أن أسباب انفصال الجنوب لو كانت أسبابا تتصل بقضايا من قبيل الاختلافات الجوهرية العميقة مثل الاختلافات التي أدت إلى انفصال ارتريا عن أثيوبيا عبر الاستفتاء، وكذلك انفصال تيمور الشرقية عن اندونيسيا عبر الاستفتاء لأمكن تصور القطيعة التي ربما لن تؤدي إلى الحرب بعد وقوع الانفصال. لكن بما أن قضية الخلاف كانت أصلا نتيجة لعجز نظام الخرطوم عن تعميم استحقاق مفهوم المواطنة الذي طالب به الجنوبيون وطرحوه كحل أخير قبيل انفصالهم، بسبب رؤيته الإسلاموية المؤدلجة ؛ ستظل المشاكل تعيد إنتاج نفسها ليس فقط بين السودان وجنوب السودان، ولكن أيضا في الصراع الشمالي الشمالي الذي يدور اليوم في النيل الأزرق وجنوب كردفان. وهو صراع قابل لأن يتجدد في منطقة شرق السودان مثلما انفجر من قبل بإقليم دارفور في غرب السودان.
ولعل في التساؤل الذي طرحه الكاتب السوداني الإسلامي الطيب زين العابدين حول الطريقة التي تم بها احتلال هجليج مرتين رغم أهميتها، من قبل جيش الحركة الشعبية خلال 3 أسابيع، ووجود نصف القوات المسلحة السودانية داخل العاصمة ما يلقي الضوء على بعض هواجس نظام الخرطوم في تأمين الداخل من خلال الجيش مع أن مهمة الجيش الأصلية هي تأمين الحدود الخارجية ؟!
هكذا بدت أحداث هجليج وتداعياتها دلالة أزمة كبيرة في بنية كل من نظامي الخرطوم وجوبا، وتجليا واضحا للمأزق الذي عجز النظامان عن تجاوزه حتى بعد انفصال الجنوب.
كان بإمكان نظامي الخرطوم وجوبا تأسيس شرعية جديدة بعد الانفصال لكل منهما لمواجهة استحقاقات المصالح المشتركة بينهما. لكن للأسف فيما ظل نظام الخرطوم يراوح مكانه عبر تجديد أزماته المختلفة والمتنوعة، ويراوغ القوى السياسية والحزبية في الشمال بتشكيل حكومة من الوجوه القديمة للمؤتمر الوطني، وبعض عناصر الأحزاب الكرتونية، بدلا من تكوين حكومة قومية من كافة قوى الأحزاب الشمالية، كانت الحركة الشعبية في دولة جنوب السودان تعيد إنتاج نفسها، ضاربة عرض الحائط بالوعود التي قطعتها على الأحزاب الجنوبية الأخرى في إقامة انتخابات سياسية حرة ونزيهة بعد انفصال الجنوب أثناء المؤتمر الشهير الذي عقدته مع الأحزاب الجنوبية قبيل انفصال الجنوب.
سيظل الحال على ما هو عليه، وسنسمع المزيد من الشتائم غير اللائقة التي طالما ظل يكيلها رأس النظام في الخرطوم، بين دولتين كان شعباهما شعبا واحد حتى قبل أقل من عام.