جلس إليه : سراج النعيم
.........
كشف والد الشهيد (عبدالسلام كشة) التفاصيل الكاملة
لاستشهاد نجله لحظة فض الاعتصام من أمام ساحة القيادة العامة بالخرطوم، وهو يعتبر من
القيادات الشبابية المؤثرة في تجمع المهنيين السودانيين، ورسم في ذات الوقت طريقاً
لانخراطه في العمل السياسي، ومشاركته في ثورة ديسمبر المجيدة منذ مهدها الأول.
من هو (عبدالسلام)، وما هي مراحله الدراسية؟
انجبته في ٢٣ يوليو ١٩٩٣م بمستشفي الحصاحيصا، ونشأ
نشأته الأولي بالجزيرة، ثم درس مراحله التعليمية الأولي بمدرسة (عبداللطيف الماظ)،
وتدرج في دراسته إلى أن التحق بمدرسة (الخرطوم) الثانوية، ومن ثم جلس لامتحان الشهادة
السودانية، وأحرز نسبة أكثر من (٦٠٪)، وكان الاتجاه أن يجلس مرة أخرى، إلا أنه رفض
الفكرة، وأصر على مواصلة التحصيل الأكاديمي جامعياً، والذي تم على إثره استيعابه في
كلية العلوم ـ قسم الفيزياء بجامعة (الدلنج) في العام ٢٠١٠م، والذي صادف انتخابات
(أحمد هارون) ضد (عبدالعزيز الحلو)، وبما أن نجلي كان ضمن تنظيم الجبهة الديمقراطية
بالجامعة نشط في الانتخابات لصالح (الحلو)، مما سلط عليه الأنظار، وتقارير الأمن الطلابي،
الجهاديين والإسلاميين الذين انتبهوا إلى أن هنالك كادراً جديداً في التنظيم، عموماً
ابني كان ناشطاً في عدائه للإسلاميين، وهو أمراً ليس وليد اللحظة، بل ورثه من أسرته
متمثلة في شخصي الضعيف، (خيلانه) و(أعمامه) المناهضين لسياسات الإسلاميين، لذلك بدأ
جهاز الأمن بـ(الدلنج) مضايقته في الداخلية، مما اضطره للإقامة خارجها، إلا أنه أصبح
(زبوناً) دائماً بالاستدعاءات والاعتقالات المتكررة، وقبل أن يكمل العام الدراسي تم
الزج به في المعتقل (١٤) يوماً، مع التعذيب الشديد، وهو ما اثبتته الأستاذة (آمال الزين)
في شهادتها حول السجل الإجرامي لجهاز الأمن ضد (عبدالسلام كشة) في (الدلنج)، مما قاد
البعض للتحرك والقيام بوساطات لإطلاق سراحه من المعتقل الذي ظل فيه حوالي الشهرين،
وكان آنذاك عمره (١٦) عاماً، ورغماً عن معاناته الكبيرة إلا أنه تم فصله من جامعة
(الدلنج) بادعاء الرسوب الأكاديمي، وتواصلت تلك السياسات التعسفية معه حتى بعد انتسابه
لكلية الحقوق بجامعة (النيلين)، ومع هذا وذاك استمرت الاستدعاءات والاعتقالات.
ماذا عن فترة التحاقه بجامعة النيلين؟
واصل مسيرته النضالية ضد نظام الرئيس المخلوع (عمر
البشير)، مما نتج عنه عدم تخرجه من الجامعة بسبب الملاحقات الشرسة له لما عرف عن نشاطه
الثوري وسط طلاب الجامعات، وهو الأمر الذي اكسبه علاقات واسعة وسط المناهضين للنظام
(البائد)، فيما أخذت أنشطته طابعاً نضالياً إنسانياً بالانتماء للتنظيمات الشبابية
مثلاً (شارع الحوادث)، (نفير) وغيرهما، خاصة وأن أغلب قيادات تجمع المهنيين السودانيين
التقوا من خلالها، وجمع بينهم العمل العام والتوجه السياسي.
هل فصل (عبدالسلام) من جامعة النيلين أيضاً؟
لا بل وضعت أمامه معوقات للمسار الأكاديمي، أي أنه
ينجح في (سيمستر) ويرسب في آخر، هكذا استخدمت معه تلك السياسة، والتي ظل على إثرها
في المستوي الثاني منذ العام ٢٠١٢م، ولم يتجاوز ذلك قيد انملة إلى أن أستشهد، والأغرب
في مسيرته الأكاديمية أن وفداً من جامعته برئاسة دكتور (العالم) جاء إلينا بعد استشهاده،
وتحدث عنه على أساس أنه طالبهم الذي يعتزون ويفتخرون به، علماً أنه من قيادات حزب المؤتمر
الشعبي، وأشاد في كلمته بأخلاقه ونبله، المهم أنه وفي أول احتفال بذكري شهداء سبتمبر
قام مع رفقائه بطباعة (بوسترات)، وكلف هو باستلامها من (راشد عباس) صاحب المطبعة، ومن
ثم تلصيقها في حوائط الجامعة، وذلك تزامناً مع الاحتفال بذكري الشهداء، والتي تم من
خلالها اعتقاله ثلاثة أشهر في (الزنازين)، والسجن الاتحادي (كوبر)، وعندما أطلق سراحه
كتبت صحيفة (الميدان) خبراً دون الإشارة إلى اسمه الحقيقي، وحينما تم تكوين اتحاد طلاب
النيلين كان هو أساس الفكرة بالتعاون مع أربعة من زملائه، وعندما وصلت (إبريل) مداها
بلغ عدد الطلاب المنضوين تحت لواء الاتحاد (٣٥) طالباً، وذلك بشهادة طلاب الجامعة الذين
سيروا مواكباً متعددة من الجامعة بمختلف كليتها لمنزل أسرة الشهيد أمتناناً وعرفاناً
له.
أين كان (عبدالسلام) في الفترة الأولي للحراك الثوري؟
مما بدأت التظاهرات في ديسمبر كان هو شريكاً أساسياً
في الإعداد، طباعة البوسترات، اللافتات، الاعلام، الشعارات وغيرها، فهو من القيادات
التي رتبت لذلك، وهنالك بعض المحطات في حياته يذكرها أفراد الأمن جيداً، وذلك من خلال
رصدهم له لاعتقاله، وهذا الاتجاه كان النواة الأولي للإعداد للحراك الثوري في الشارع،
وذلك بالتعاون مع تجمع المهنيين السودانيين، والذي هو عضواً فيه منذ العام ٢٠١٣م.
أين كان الاعتصام قبل انتقاله إلى أمام القيادة
العامة بالخرطوم؟
مقره كان في دار اتحاد خريجي جامعة الخرطوم، وكنا
كاسرة إذا أردنا الالتقاء به نذهب إليه هناك، وكان معه مجموعة من أصدقائه، زملائه ورفقاء
النضال من مختلف الجامعات بما فيهم من تخرجوا منها، وقد انشئوا (خيمة) أمام داخلية
الطالبات (البرس) الحالية حتى عندما بدأ فض الاعتصام كان داخلها منذ موكب ٦ أبريل،
وحتى تاريخ فض الاعتصام ٣/٦/٢٠١٩م.
ماذا عن اعتقاله في مظاهرات الكلاكلة اللفة، وتعرضه
للحرق في امدرمان بقذيقة (بمبان)؟
هو أصلاً في تنسيقية لجان المقاومة بالخرطوم، لذا
كان مراقباً من جهاز الأمن الذي اعتقله في مظاهرات (الكلاكلة اللفة)، ومن ثم أطلق سراحه،
ومن ثم تعرض للحريق في بداية الموكب حي (العباسية) بمدينة امدرمان بقذيفة (بمبان) مباشرة.
كيف عرف جهاز الأمن بواقعة الحريق الذي تعرض له؟
من خلال نشره عبر (الفيس بوك)، الأمر الذي اضطرنا
إلى إدخاله مستشفي خاص باسم (مستعار)، وتمت فيه الإجراءات الأولية، والتي مكث على ضوئها
بالمستشفي ثلاثة أيام، ثم خرج بعدها لاستكمال علاجه في مكان آمن، وبعد أسبوعين كان
هنالك موكب (الخميس) الشهير، والذي دائماً ما يمتاز بأنه الرئيسي للحراك الثوري، وفي
ذلك اليوم تفاجأنا بغيابه حوالي الساعة الحادية عشر صباحاً، هكذا عاود نشاطه بصورة
تلقائية رغماً عن أن جروحه لم تلتئم بعد، أي أنه واصل نضاله الثوري من تنسيقية ولاية
الخرطوم، وظل على ذلك النحو إلى أن استقر به المقام أمام القيادة العامة، والتي كان
الاعتصام أمامها مذهلاً للعالم أجمع لالتزام الثورة الشبابية بالسلمية إلى أن بلغت
هدفها في ٦ إبريل ٢٠١٩م، والاطاحة بالرئيس المخلوع (عمر البشير) من سدة الحكم بعد ثلاثة
عقود، وقد نجح هو ورفقائه في إدارة ساحة الاعتصام، وقد صاحبها من أحداث تركت أثرها
في النفوس، وبلا شك أبرزها قطار (عطبرة) الشهير، والذي تناقلته وكالات الأنباء، القنوات
الفضائية والصحف العالمية، والتي اعتبرته حدثاً تاريخياً، وهذه الخطوات النضالية وجدت
إقبالاً جماهيرياً كبيراً، بما في ذلك مشاركة الأسر من الداخل والخارج.
هل كان الشهيد مستقراً في ساحة الاعتصام بصورة دائمه؟
لا بل كان يذهب إليها ثم يأتي للمنزل ما بين الفينة
والآخري كلما بلغ به (الإرهاق)، وبالتالي فإن زمنه كان مقسماً ما بين المنزل وساحة
الاعتصام، وكثيراً ما يأتي معه البعض من رفقائه باعتبار أن المنزل قريباً من الساحة،
وإلى هذه اللحظة هنالك ملابس موجودة داخل المنزل تخصهم، وهذا يوضح طبيعة الارتباط بينهم،
وكان كثيراً ما يحضر لأخذ بعض المواد من المنزل إلى ساحة الاعتصام، ودائماً والدته
وشقيقه يذهبان إليه بعد أداء صلاة التراويح، ويظل هذا التواصل حتى ساعات الصباح الأولي.
ماذا عن يوم فض الاعتصام من أمام القيادة العامة؟
كان هنالك أرهاصات تدور حول فض الاعتصام، وأن كان
الفض في حقيقته بدأ من الثامن من شهر رمضان، واتضح ذلك من خلال محاولة قوات هيئة العمليات
التابعة لجهاز الأمن، والاعتصام نسبة إلى أنه كان مسبباً ضغطاً للسلطات التي لم يكن
بحجم ثورة الشارع السوداني، مما سبب كثير من الإحباط للثوار الذين اعتزلوا العمل السياسي،
واعتكفوا في منازلهم، بالإضافة إلى أنهم توقفوا عن مزاولة عملهم المعتاد، والذي يعولون
منه أسرهم، ورغماً عن ذلك فهي خطوة في سبيل الديمقراطية، وأن شاء الله سنة انتقالية
وتعدي.
ماذا عن استشهاد (عبدالسلام) في ساحة الاعتصام؟
محاولات فض الاعتصام كانت كثيرة، وبما أن المنز
قريباً من الساحة وكنا نسمع أصوات الرصاص بصورة مشتته، ولكن في ٣/٦/٢٠١٩م كان عنيفاً،
إذ إنني استيقظت من النوم على صوت إطلاق الرصاص المكثف، وبدون ما أشعر وجدت نفسي في
(ترس) المحكمة الدستورية حوالى الساعة الخامسة فشاهدت القوات تطوق ساحة الاعتصام، إذ
أنه كان ممنوعاً الدخول، إلا أن الخروج مسموحاً به، وكان هنالك شباب يخرجون من الساحة،
وفي تلك الأثناء تجمعنا عدداً كبيراً من أسر شباب الاعتصام، مما سبب مضايقة لقوات الفض،
والذين طلبوا منا الابتعاد، إلا أننا لم نفعل إلى أن بدأ خروج بعض المصابين من خلال
بوابة حوالي الساعة السادسة صباحاً، فكان أن إسعفناهم إلى مستشفي (فضيل)، ومن هاك وجدت
نفسي قريباً من المنزل، فقلت في قرارة نفسي يجب أن أعود إليه لمعرفة ما الذي يجري فيه،
وكان أن وجدت أسرتي بأكملها في الشارع، ويبدو عليهم الانزعاج الشديد، لذا كان واضحاً
بأن ما جري في ساحة الاعتصام هو الفض النهائي له، إذ أن صوت الزخيرة ظل مسموعاً لنا
حتى الساعة الثامنة مساءً، أي على مدار ساعتين كان هنالك إطلاق رصاص بشكل مكثف، وأصبحت
الشوارع مكتظة بالثوار الذين شاهدتهم في شارع (السيد عبدالرحمن)، وإلى تلك اللحظة لم
أتصفح (الفيس بوك)، إلا إنني بدأت أتلقي المكالمات الهاتفية تلو الاخري حوالي الساعة
الثامنة والنصف مساءً، وتطرح على الأسئلة المتمثلة في هل (عبدالسلام) كان نائماً في
المنزل، وهل تواصلتم معه وغيرها؟، ومن هنا تأكدت أن نجلي أستشهد، ومن أشرت لهم تأكد
لديهم الخبر إلا أنهم يودون معرفة هل عرفت أم لا، عموماً ظهرت صورته بـ(الفيس بوك)
من خلال نعي رفقاه له، ثم تأكدت أكثر من جهتين أثق فيهما تماماً، وهما بدورهما أكدا
لي الوفاة، وأن الجثمان في مستشفي المعلم، وكان توجهت إلى هناك عبر (ترس) المحكمة الدستورية
من خلال شارع (البلدية)، وشاهدت أثناء سير العربة مناظراً مؤسفة حقاً، وذلك على امتداد
الشارع سالف الذكر، لم ينتبهوا إلى أن هنالك عربة تمضي في هذا الإتجاه، المهم أن أفراداً
من قوات فض الاعتصام سألتني من أين آتيت؟ فقلت : من منزلي، ثم أردفوا إلى أين ذاهب؟
قلت : مستشفي المعلم، ومن ثم أصروا على أن أقابل الضابط، والذي وجدته وسط ذلك الركام
ومعه ثلاثة برتبة نقيب، وكان أن وجهوا لي بعض الكلمات غير المحببة للنفس، ومن ثم قال
: ربنا يتقبله، ثم سمح لي بالسير بعد تقييم الحالة، المهم إنني مضيت في طريقي الذي
مررت من خلاله بشارع داخلية (البركس)، والتي أتضح لي فيما بعد أنها كانت معتقلاً، وتم
فيها ما تم، ولكن لا أريد أن أعيد ذكري أليمة لبعض الناس الذين كانوا محتجزين فيها،
وفي مستشفي المعلم وجدت طبيباً قلت له إنا (كشة) ما أن طرق اسمي أذنه إلا ورفع يده
و(شال معي الفاتحة)، عندها أصبحت المسألة واضحة للجميع، وقالوا لا نسلم الجثامين هنا،
بل علينا الذهاب إلى مشرحة (بشائر) بالخرطوم، إما المشوار من المستشفي إلى المشرحة
فهذا موضوعاً ثانياً، إذ أن الشوارع كانت (مترسة) منذ منتصف النهار حيث أن ثوار (البراري)
مترسين شوارعهم، ولا تستطيع المرور عبرها بشكل سهل، وعندما وصلت جامعة أفريقيا العالمية
كانت الساعة الثانية ظهراً، ولم تكن هنالك قوات عسكرية بالشارع الشرقي من شارع (عبيد
ختم) حتى شارع (جامعة أفريقيا)، بل كان هنالك ثوار، وفي شارع جامعة أفريقيا كانت معي
والدته، وأثناء ذلك اتصل بي أحد الأصدقاء، فقلت له الوضع بالنسبة لنا صعباً جداً، فإن
وزوجتي غير قادرين على العودة للمنزل أو الوصول إلى مشرحة (بشائر)، بالإضافة إلى أن
النيران كانت مشتعلة، لذا أرجو منك أن تأتي لإعادة والدة الشهيد عبدالسلام للمنزل خاصة
وأنه مقيماً في (امتداد ناصر)، إلا أنه تعذر وصوله إلينا، فما كان أمامي حلاً سوي أن
أواصل سيري إلى مشرحة (بشائر)، ومن ثم لحق بنا بعض الأهل، وواحداً منهم قام بإعادة
العوائل إلى المنزل، والذي بدأ الناس يتجمهرون فيه ، مما أثار حفيظة القوات التي كانت
تمشط في منطقة الخرطوم شرق حتى شارع القصر الجمهوري، وكان أن أطلقوا زخيرة داخل منزلي
بحجة أن أحد المعتصمين دخل إليه، وهو مربي شعره ويودون حلاقته له، إلا أن من تجمعوا
أمام المنزل منعوهم من ذلك، وأكدوا لهم أن داخل هذا المنزل عوائل، والناس بدأت تتصل
على ويؤكدون أنهم تعرضوا لإطلاق أعيرة نارية، مما جعل حياتنا معرضة للخطر، ولم يكن
في مقدوري تحديد زمن لاستلام جثمان الشهيد عبدالسلام كشة، وعليه لا استطيع تحديد موعداً
للدفن، وعندما تم تسليمنا الجثمان كانت الساعة الثانية عشر مساءً، وعندما وصلنا المنزل
كانت الساحة الواحدة من صباح اليوم التالى ...